ففي هذا النص تحديد لموضوع الكتاب ومادته، وبيان للمنهج المتبع في جمعها وتصنيفها وترتيبها وعرضها. كما أن تعبير الراغب بلفظ "الاستيفاء" يؤكد قصده إلى استيعاب جميع ألفاظ القرآن بحيث لم يقصر اهتمامه على ألفاظ دون أخرى، ولم يشر إلى غريب ولا إلى غيره.
ولا يقدح في أصل المسألة أن يكون قد فات الراغب بعض الألفاظ مما نبه عليه السمين الحلبي (ت، 756هـ) في "عمدة الحفاظ" (9)، ومحقق المفردات الدكتور صفوان داوودي، فهي ألفاظ معدودة على رؤوس الأصابع كما يقال!!.
- ومن ذلك أن كتاب المفردات يختلف كثيرا عن كتب الغريب كتفسير غريب القرآن لابن قتية (ت، 276هـ)، وتفسير غريب القرآن المسمى بترهة القلوب لابن عزيز السجستاني (ت، 330هـ) وغيرهما. بل إنه يختلف عن كتب معاني القرآن كما هي عند الفراء (ت، 207هـ) والزجاج (ت، 311 هـ) والمجاز لأبي عبيدة (ت، 210 هـ) وغيرهم، حيث تلحق عادة بكتب الغريب، أو تلحق هي بها.
وهذه الكتب تهتم بالجانب اللغوي وتعنى بالغريب غاية العناية أكثر من أي شيء آخر. في حين يجتمع عند الراغب اللغة عامة ولغة القرآن خصوصا والمصطلح أيضا. وهنا ينبغي التفريق بين كون المفردات متضمنا للغريب – وهو ما لا يمكن إنكاره – وبين كونه كتابا في الغريب، وهما صنفان بينهما بون شاسع.
- ومن ذلك أيضا أننا عندما نتأمل – بعناية – في مقدمة المفردات فإنا نجد الراغب متطلعا إلى بناء "نظرية" في علم بيان القرآن. وقد نص على أن كتابه هذا جاء في سياق تأليفي مقصود ... فقبله كانت "الرسالة المنبهة على فوائد القرآن". ثم كتاب "الذريعة إلى مكارم الشريعة". قال: "وذكرت – أي في تلك الرسالة – أن أول ما يحتاج أن يشتغل به من علوم القرآن العلوم اللفظية، ومن العلوم اللفظية تحقيق الألفاظ المفردة، .. وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع". ثم قال: "وأتبع هذا الكتاب إن شاء الله تعالى ونسأ في الأجل بكتاب ينبئ عن تحقيق الألفاظ المترادفة على المعنى الواحد وما بينها من الفروق الغامضة" (10).
ويضاف إلى هذا أنه توسع في العلوم اللفظية بمباحثها المختلفة في مقدمة تفسيره (11).
ويفهم من قول الراغب السابق: "والإشارة فيه إلى المناسبات التي بين الألفاظ المستعارات منها والمشتقات حسبما يحتمل التوسع في هذا الكتاب"، أن كتاب "المفردات" – في مداه الحقيقي الذي يتصوره المؤلف – أعمق وأوسع مما هو عليه الآن. وذلك لأن استخلاص دلالة اللفظ القرآني يستلزم النظر إليه اعتمادا على:
- ملاحظة الفرق بين اللفظ ومرادفه بحسب دلالة اللغة ثم بحسب الاستعمال القرآني.
- رصد اختلاف دلالة اللفظ الواحد تبعا لاختلاف السياق.
-رصد اختلاف المعاني وتنوعها بسبب اختلاف الاشتقاق والتصريف.
-ولا شك في أن مراعاة كل ذلك يستلزم أعمارا متعددة وأعمالا ضخمة جدا نظرا لخصوصية النص القرآني المعجز.
لقد كان الراغب على وعي تام بذلك المدى الواسع، ولكنه ربما نظر في ما يستقبل من عمره فرآه غير كاف لإنجاز هذا المشروع الضخم فاكتفى بالتنبيه والإشارة ... وفي ذلك علامة ومنارة!!.
إن اهتمام الراغب إذن بتحقيق الألفاظ المفردة وارد ضمن نسق معرفي محكم. ولعل من مظاهر هذا النسق امتداد العناية به من تحقيق ألفاظ القرآن الكريم إلى التنبيه والاهتمام – ضربا من الاهتمام – بتحديد اصطلاحات العلوم. يقول: " وليس ذلك نافعا في علم القرآن فقط، بل هو نافع في كل علم من علوم الشرع، فألفاظ القرآن هي لب كلام العرب وزبدته، وواسطته وكرائمه، وعليها اعتماد الفقهاء في أحكامهم وحكمهم، وإليها مفزع حذاق الشعراء والبلغاء في نظمهم ونثرهم. وما عداها وعدا الألفاظ المتفرعات عنها والمشتقات منها هو بالإضافة إليها كالقشور والنوى بالإضافة إلى أطايب الثمرة، وكالحثالة والتبن بالإضافة إلى لبوب الحنطة" (12).
ففي هذا النص تتجلى محورية اللفظ القرآني في بنية العلوم الإسلامية والعربية، وقد بنى عليها الراغب تصوره لتصنيف العلوم التي يأتي على رأسها "علم القرآن" (هكذا بالمفرد! وفيه دلالة خاصة) ثم تليه علوم الشرع التي نشأت حوله.
ويتجلى في النص أيضا خطر اللفظ في علم القرآن وخطر المصطلح في علوم الشرع، بل في سائر العلوم. ولعل هذا هو ما يدفع بعض العلماء والباحثين إلى القول باصطلاحية ألفاظ القرآن لما يلاحظ من تميز وخصوصية في دلالاتها الاستعمالية في الخطاب القرآني.
ومن هذه النافذة يمكن أن نطل على مظهر عظيم من مظاهر التداخل بين علم القرآن وهو الوحي، وبين العلوم التي أسسها العقل المسلم استنادا إلى الوحي بيانا وتبينا. ونطل بعد ذلك على مظهر من مظاهر التداخل والتكامل بين تلك العلوم ذاتها نظرا لوحدة
الهوامش:
1 - ) البرهان 1/ 291.
2) الإتقان 1/ 113.
3) دراسات قرآنية في جزء عم/ د. أحمد محمود نحلة، دار العلوم العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1409هـ/ 1989م، ص 76.
4) - غريب القرآن: دراسة وصفية/ فتحي أنور الدابولي، مجلة المنهل، العدد 491، ص 113 - 119.
5) انظر تقديم د. صفوان داوودي للمفردات، وقد بذل هذا المحقق جهدا مشكورا في إخراج المفردات في صورة حسنة، وذيله بعدة فهارس نافعة جدا، لكن فاته فهرس المصطلحات مرتبة بحسب العلوم، وهو من أهم ما ينبغي العناية به في الفهارس والكشافات.
6) دراسات قرآنية/ د. نحلة ص 72.
7) السابق ص 74.
8) مقدمة المفردات.
9) عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ/ السمين الحلبي، تحقيق د. محمد التونجي، عالم الكتب، بيروت الطبعة الأولى 1414هـ- 1995م، 1/ 38 - 39.
10) مقدمة المفردات.
11) نشرت تحت عنوان "مقدمة جامع التفاسير، مع تفسير الفاتحة ومطالع البقرة" تحقيق الدكتور أحمد حسن فرحات، دار الدعوة، الكويت، الطبعة الأولى 1405هـ- 1984م.
12) مقدمة المفردات.
¥