فإنْ قالَ قائلٌ: أفلا يُشْكِلُ هذا على القاعدةِ المعروفةِ أنّ الفِسْقَ لا يتصفُ بهِ الفاعلُ إلا إذا تَكرَّرَ منهُ، أو كانَ كبيرةً؟
فالجوابُ: أنّ الله ? حَكَمَ على المضَارَّةِ بأنّها فُسُوقٌ؛ والقرآنُ يَحكمُ،ولا يُحْكَمُ عليه ". ()
7 – ومِن مَلامحِ مَنهجهِ في الاستنباط: أنْ يبني الفائدةَ على أحدِ الأقوالِ التفسيريّةِ المرادةِ في الآيةِ، أو على أحدِ الاحتمالاتِ الواردةِ فيها.
ومِن أمثلتهِ:
عند تفسيره لقوله تعالى: {وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} (البقرة: 80)
ذكرَ الخلافَ في {أَمْ} هل هي مُتَّصِلَةٌ أم مُنقطِعَةٌ، ثم ذكرَ في فوائدِ الآيةِ ():"
حُسْنُ مُجادلةِ القرآنِ؛ لأنّه حَصَرَ هذهِ الدَّعوَى في واحدٍ مِن أمرينِ، وكِلاهُمَا مُنْتَفٍ: {أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} وهذا على القولِ بأنّ {أَمْ} هُنَا مُتَّصِلَةٌ؛ أمّا على القولِ بأنّها مُنقطِعَةٌ فإنهُ ليسَ فيها إلاَّ إلزامٌ واحد ". ()
وعند تفسيره لقوله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} (البقرة: من الآية175)
ذكرَ خلافَ المفسِّرينَ فيها،وذكرَ أنّ مِنهم مَن يرى أنّه تَعَجُّبٌ مِن الله ?؛ ومِنهم مّن يرى أنّ المرادَ بالعجبِ التَّعْجِيبَ؛كأنّهُ قالَ: اعْجَبْ أيُّهَا المخاطبُ مِن صبرهمْ على النار ()، ثم ذكرَ مِن فوائدها:" إثباتُ العَجَبِ لله ? لقولهِ تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} – على أحدِ الاحتمالينِ -، وهو مِن الصِّفاتِ الفعليّةِ ". ()
وعند تفسيره لقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} (البقرة: من الآية188)
قالَ في تفسيرها:" {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أيْ تَتَوَصَّلُوا بها إلى الحكَّامِ لتجعلوا الحكَّامَ وسيلةً لأكْلِهَا بأنْ تَجْحَدَ الحقَّ الذي عليكَ وليسَ بهِ بينةٌ؛ ثم تُخاصِمُهُ عندَ القاضي فيقولُ القاضِي للمُدَّعِي عليكَ: " هَاتِ بَيِّنَةً "؛ وإذا لم يكنْ للمُدَّعِي بينةٌ تَوجَّهت عليكَ اليمينُ؛ فإذا حلفتَ بَرِئْتَ؛ فهنا تَوصَّلتَ إلى جَحْدِ مَالِ غيركَ بالمحاكمةِ؛ هذا أحدُ القولينِ في الآيةِ؛ والقولُ الثاني: أنّ مَعنى: {تُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} أي تُوصِلُوهَا إليهم بالرِّشْوَةِ ليَحْكُمُوا لكم؛ وكِلا القولينِ صحيحٌ ". ()
ثمّ ذكرَ مِن فوائدها:" تحريمُ الرِّشْوَةِ لقوله تعالى {وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} على أحدِ التفسيرينِ كما سبقَ ". ()
قُلْتُ: وهذه الطريقةُ في الاستنباطِ تدلُّ على ما يلي:
الأول: أهمّيةِ معرفةِ تفسير الآيةِ قبلَ البدءِ باستنباطِ فوائدها.
الثاني: أهمّيةِ القاعدةِ التفسيريّةِ المشهورة وهي: وجوبُ حَمْلِ الآيةِ على كُلِّ المعاني التي تحتملها ما لم يَكُنْ بينها تَضَادٌّ. ()
الثالث: أنّ بعضَ الفوائدِ المستنبطةِ مِن الآياتِ لا تدلُّ عليه الآيةُ بإطلاق، وإنّما هو أحدُ الاحتمالاتِ الواردةِ في الآيةِ، ولذا فلا بُدَّ مِن النظرِ إلى صِحَّةِ هذا الاحتمالِ مِن عَدَمِه.
8 – ومِن مَلامحِ مَنهجهِ في الاستنباط: دِقَّةُ الاستنباطِ، والإشارةُ إلى معاني الآيةِ الخفيَّةِ.
عند تفسيره لقوله تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} (النساء: من الآية131)
ذكرَ مِن فوائدها:"
1 – عمومُ مُلْكِ الله لقولهِ: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} لأنّ جميعَ الأسماءِ الموصولةِ تُفيد العمومَ.
2 – اختصاصُ مُلْكِ السمواتِ والأرضِ لله ?؛ لتقديمِ الخبرِ؛ لأنّ تقديمَ ما حَقُّهُ التأخيرُ يُفيد الحصْرَ ". ()
وعند تفسيره لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} (المائدة: من الآية6)
ذكرَ مِن فوائدها:"
¥