تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

أما استعمال الترجمات أداة للطعن فى الدين من غير المنتسبين للإسلام، فنعم، ترجم النصارى كتابنا قديمًا، وحديثاً طلع علينا المستشرقون بسخافاتهم المضحكة التى أسموها ترجمات، على حين لم يقترف المسلمون مثل ذلك، فلم يُعرف لهم ترجمة للبايبل قديمًا ولا حديثًا والله أعلم. وكنت أرجو أن يجلى البحث هذه المسألة وأسبابها. ولكن يُقال: المسلمون لم يترجموا البايبل للطعن فى النصرانية، ولكن هل أحجم غير المسلمين عن استعمال ترجمات البايبل للطعن فى النصرانية؟

وأما استعمال الترجمات أداة ترويج لأفكار الفرق الضالة، فهذا حدث للقرآن العظيم والبايبل سواء بسواء.

ثانيًا:

أغفل البحث فارقًا مهمًا بين ترجمات البايبل وترجمات معانى القرآن، وهو ثبات النص القرآنى واضطراب نص البايبل، فإن النص العربى للقرآن العظيم ثابت بفضل الله تعالى، وأما نص البايبل فمضطرب عند أهله، لأنهم لا يملكون رواية شفوية واحدة لكتابهم أو بعضه تتصل إلى الكاتب الأصلى بسند صحيح ولا ضعيف، ولا يملكون إلا مخطوطات، فإذا أرادوا ترجمة البايبل من مخطوطاته - غير الأصلية - التى بأيديهم، رجعوا إلى تلك المخطوطات، فوجدوا فيها اضطرابًا فى ألفاظ العبارات، فيجتهدون مضطرين فى ترجيح ألفاظ بعض المخطوطات وإهمال غيرها. ثم يجدون فقرات كاملة مثبتة فى مخطوطات ومحذوفة من أخرى، فيجتهدون مضطرين فى تقرير إثباتها أو حذفها، وهكذا، إلى آخر مشاكل تحقيق النصوص المعروفة.

ثم يأتى آخرون وينظرون فى نفس المخطوطات فيرجحون ما أهمله الأولون، ويهملون ما رجحوه، ويثبتون ما حذفوه، ويحذفون ما أثبتوه، وهكذا، ثم يطلعون على الناس بـ "ترجمة" أخرى غير التى قبلها.

ثم تظهر مخطوطات أخرى، بعضها يتقدم فى الزمان على المخطوطات التى كانت من قبل، فيجتهد أناس فى النظر إلى الرصيد الحالى من المخطوطات، ويعيدون النظر - مضطرين - فى اختلافات المخطوطات، فيكتشفون أن العبارة الفلانية دخيلة لأنها - مثلاً - غير موجودة فى أقدم المخطوطات، ويعتذرون للسابقين الذين قبلوا العبارة بأنهم لم يكونوا يملكون المخطوطات التى ظهرت من بعدهم.

فالقوم دائبون فى اكتشاف الوحى الإلهى جيلاً بعد جيل، ففى جيل يكتشفون أن الرب أوحى بهذه الفقرة، وفى جيل آخر يكتشفون أن الرب ما أوحى بها. وهكذا دواليك.

والأمر يتعدى الألفاظ المفردة إلى العبارات الطويلة، ويتعدى العبارات الطويلة إلى الفقرات الكاملة، ثم يتعدى كل ذلك إلى "أسفار" بتمامها، طائفة تقرر أن الرب أوحى بها لهداية البشر، وأخرى تؤكد أن الرب لا يوحى بمثل هذه الخزعبلات.

وهذا الفارق له أثره فى ترجمات الكتابين، فإن النص "المتجدد" يحتاج إلى ترجمات، تكثر بحسب كثرة "تجدده"، وبحسب كثرة "المجتهدين" فى "تقرير" إلهاميته.

ثالثًا:

أُشكل عليّ التعبير النصراني "روح الخلاص" فى قول د/ العمرى: "وللنشاط التنصيري الكبير وروح الخلاص التي تدفعه أثر في انتشار ترجمة الإنجيل" لأنه ساقه كأنه من تقريره، ولا شك أنه "يحكى" فقط عن القوم. وفى البحث كثير من هذا.

فائدة:

قرر د/ العمرى أن حفظ اللغة العربية وموت لغات البايبل كان له أثره على ترجمات كلا الكتابين. وقد وجدت كلامًا لشيخ الإسلام يدعم هذا التقرير، فإن موت لغات البايبل كان سببًا فى إقبال أهله على ترجمته، وأما العربية فقد حفظها الله فانتشرت فى الأرض، فكان ذلك سببًا فى تقليل أهمية ترجمة معانى القرآن عند المسلمين القدامى. فلما طعن النصارى فى القرآن بأنه عربى فيصير للعرب فقط، كان من رد ابن تيمية رحمه الله فى (الجواب الصحيح) على هذا الطعن: أن العربية انتشرت أكثر من غيرها من الألسنة.

قال رحمه الله: "وقد كان العارفون باللغة العربية حين بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم إنما يوجدون فى جزيرة العرب وما والاها، كأرض الحجاز واليمن وبعض الشام والعراق، ثم انتشر فصار أكثر الساكنين فى وسط المعمورة يعرفون العربية، حتى اليهود والنصارى الموجودون فى وسط الأرض يتكلمون بالعربية، كما يتكلم بها أكثر المسلمين، بل كثير من اليهود والنصارى يتكلمون بالعربية أجود مما يتكلم بها كثير من المسلمين، وقد انتشرت هذه اللغة أكثر مما انتشرت سائر اللغات، حتى إن الكتب القديمة من كتب أهل الكتاب، ومن كتب الفرس والهند واليونان والقبط وغيرهم عربت بهذه اللغة، ومعرفة الكتب المصنفة بالعربية والكلام العربى أيسر على جمهور الناس من معرفة الكتب المصنفة بغير العربية، فإن اللسان العبرى والسريانى والرومى والقبطى وغيرها، وإن عرفه طائفة من الناس، فاللذين يعرفون اللسان العربى أكثر ممن يعرف لسانًا من هذه الألسنة".

ويمكن الإضافة بأن التيسير الذى كان للعربية كان للقرآن قبلها، فوُجد من الأعاجم من يحفظ القرآن وإن لم يتقن العربية. وليس للبايبل شىء من ذلك.

قال ابن تيمية: "وكثير من الفرس والروم والترك والهند والحبشة والبربر وغيرهم لا يعرفون أن يتكلموا بالعربية الكلام المعتاد، وقد أسلموا وصاروا من أولياء الله المتقين، ومنهم من يحفظ القرآن كله وإذا كلم الناس لا يستطيع أن يكلمهم إلا بلسانه لا بالعربية، وإذا خوطب بالعربية لم يفقه ما قيل له".

ولعل مما يؤكد أن انتشار اللغة يتناسب عكسيًا مع الإقبال على الترجمة، ما قرره البحث من القلة النسبية لترجمات البايبل فى الإنجليزية، فحصل بعض الاكتفاء النسبى بترجمات البايبل الإنجليزية التى شاعت بشيوع لغتها.

والحمد لله رب العالمين.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير