وعلّل الألوسي هذا الوجه قائلاً: "المقامُ مقامُ بيان طريق خروج المحصر عن الإحرام، لا مقام كل ما يجب عليه، ولم يُعلم من الآية حكم غير المحصر عبارةً، كما عُلم حكم المحصَر من عدم جواز الحلّ له قبل بلوغ الهدي، ويُستفاد ذلك بدلالة النصّ، وجَعْلُ الخطاب عاماً للمحصَر وغيره بناءً على عطف ?ولا تحلقوا? على قوله سبحانه:? وأتموا?، لا على ?فما استيسر? يقتضي بتر النظم؛ لأن ?فإذا أمنتم? عطف على ?فإنْ أُحصرتم? كما لا يخفى" (36).
وخالف الإمام ابن كثير هذا الرأي، وجعل قوله تعالى: ?ولا تحلقوا رؤوسكم? عطفاً على قوله: ?وأتموا الحج والعمرة لله?، لا على:? فإنْ أُحصرتم?، واحتج بأن النبي? وأصحابه ـ عام الحديبية ـ لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم، فأما في حال الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق? حتى يبلغ الهدي محله? ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة (37)، وتبعه في هذا الأستاذ سيد قطب حيث يرى أن الأمر بعدم الحلق عام، وليس مقتصراً على وجود الإحصار (38).
وتُردّ حجة الإمام ابن كثير بما ذكره الإمام الزمخشري: "فإنْ قلتَ: إن النبي ? نحر هديه حيث أُحصر، قلتُ: كان محصَرُه طرفَ الحديبية الذي إلى أسفل مكة، وهو من الحرم" (39)، فإذا عُلِم أن الحديبية التي أُحصر فيها النبي وأصحابه من الحرم فلا يبقى هناك مانع من عطف قوله تعالى: ?ولا تحلقوا? على قوله: ?فإنْ أُحصرتم?.
ولما غيّا الحلق ببلوغ الهدي محله، وكان قد يعرض للإنسان ما يقتضي حلق رأسه لمرض أو أذى
برأسه، رخّص الله له الحلق، وأوجب عليه فدية من صيام أو صدقة أو نسك:? فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك?، والأذى: كناية عن الوسخ الشديد والقمل، لكراهية التصريح بالقمل.
وبيّن رسول الله ? ما انبهم من الإطلاق في قوله تعالى:? ففدية من صيام أو صدقة أو نسك?، حيث روى الإمام البخاري عن كعب بن عجرة (40) أنه قال: وقف عَلَيَّ رسول الله ? بالحديبية ورأسي يتهافت قملاً، فقال: " أيؤذيك هوامُّك؟ "، قلت: نعم، قال: "فاحلق رأسك"، أو قال: "فاحلق"، قال: فيَّ نزلت هذه الآية: ?فمن كان منكم مريضاً أو به أذىً من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك ? [البقرة:196]، إلى آخرها، فقال النبي ?: "صم ثلاثة أيام، أو تصدّق بِفَرَقٍ (41) بين ستة، أو انسُك بما تيسر" (42).
?فإذا أمنتم فمن تمتع بالعمرة إلى الحج فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة?: روى الإمام البخاري عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه قال: " أليس حسبكم سنة رسول الله?؟ إنْ حُبِس أحدكم عن الحجّ، طاف بالبيت وبالصفا والمروة، ثم حلّ من كل شيء، حتى يحج عاماً قابلاً، فيهدي، أو يصوم إنْ لم يجد هدياً" (43).
أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك فمَن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج ـ وهو يشمل من أحرم بهما، أو أحرم بالعمرة أولاً، فلما فرغ منها أحرم بالحج ـ، فليذبح ما قدر عليه من الهدي، وإنْ تعذر عليه ذبح الهدي لفقدانه أو لتعذر ثمنه، يلزمه صيام ثلاثة أيام في الحج، أي في زمن وقوع الحج، وسبعةٍ إذا رجع إلى أهله ووطنه، وصيام هذه الأيام العشرة يعادل في الثواب ذبح الهدي لمن لم يتيسر له الذبح.
" وفُسِّر التمتع هنا بإسقاط أحد السفرين؛ لأن حق العمرة أن تُفرد بسفرٍ غير سفر الحجّ، وقيل: لتمتعه ـ بكل ما لا يجوز فعله ـ من وقت حلّه من العمرة إلى وقت إنشاء الحج" (44).
?ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام?: ?ذلك?: إشارة إلى أقرب مذكور، وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع، هذا عند الشافعي ?، فالهدي يلزم المتمتع إذا كان آفاقياً؛ لأن الواجب أن يحرم عن الحج من الميقات، فلما أحرم من الميقات عن العمرة، ثم أحرم عن الحج لا من الميقات، فقد حصل هناك الخلل، فجُعلَ مجبوراً بالدم، والمكي لا يجب إحرامه من الميقات، فإقدامه على التمتع لا يوجب خللاً في حجّه، فلا يجب عليه الهدي ولا بدله" (45)، واحتج أصحاب هذا الرأي بأن اسم الإشارة ?ذلك? يعود إلى أقرب مذكور في السياق (46).
¥