تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقد انفرد الإمام ابن جرير بهذا القول ـ على ما أعلم ـ؛ محتجاً بأن (الرفث) حرام في الإحرام، حلالٌ قبله، قال رحمه الله: "?ولا فسوق?، أي: لا يفعل ما نهاه الله عن فعله في حال إحرامه، ولا يخرج عن طاعة الله في إحرامه، وقد علمنا أن الله جل ثناؤه قد حرم معاصيه على كل أحد، مُحرِماً كان أو غير مُحرِم، وكذلك حرّم التنابز بالألقاب في حال الإحرام وغيرها، بقوله:? ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب? [الحجرات:11]، وحرم على المسلم سباب أخيه في كل حال، فَرَض الحج أو لم يفرضه.

فإذ كان ذلك كذلك، فلا شك أن الذي نهى الله عنه العبدَ من الفسوق في حال إحرامه وفرضه الحجّ، هو ما لم يكن فسوقاً في حال إحلاله وقبل إحرامه بحجّه، كما أن الرفث الذي نهاه عنه في حال فرضه الحجّ، هو الذي كان له مطلقاً قبل إحرامه؛ لأنه لا معنى لأن يُقال فيما قد حرم الله على خلقه في كل الأحوال: "لا يفعلن أحدكم في حال الإحرام ما هو حرام عليه فعله في كل حال"؛ لأن خصوص حال الإحرام به لا وجه له، وقد عُمّ به جميع الأحوال من الإحلال والإحرام.

فإذ كان ذلك كذلك، فمعلوم أن الذي نُهِيَ عنه المحرم من (الفسوق) فخُصّ به حال إحرامه، وقيل: "إذا فرضت الحجّ، فلا تفعله"، هو الذي كان له مطلقاً قبل حال فرضه الحجّ، وذلك هو ما وصفنا وذكرنا، أن الله جلّ ثناؤه خص بالنهي عنه المحرم في حال إحرامه مما نهاه عنه: من الطيب واللباس، والحلق، وقصّ الأظفار، وقتل الصيد، وسائر ما خص الله بالنهي عنه المحرِم في حال إحرامه" (22).

القول الثالث يحمل (الفسوق) على المعاصي بأشكالها، قال الإمام الرازي: "فاعلم أن الفِسْقَ والفُسُوقَ واحد، وهما مصدران لـ (فَسَقَ) (يَفْسُقُ)، والفسوق هو الخروج عن الطاعة" (23)، فالفسوق "يتناول المعاصي كلها، وحمل اللفظ على بعض أنواع الفسق تحكم من غير دليل" (24).

وهذا هو القول الراجح لديّ؛ لأنه ليس هناك ما يخصص المقصود من (الفسوق)، وما قاله الإمام الطبري من أن المقصود محلِّلات الإحرام، فتدخل دخولاً أولياً في عموم المعاصي، وأما النهي عن الفسوق ـ الذي هو المعاصي بعمومها ـ في الحجّ على الرغم من حرمته قبل الحجّ؛ فلأن النهي عنه في هذا الظرف آكد؛ لما يكون عليه الحاج من حالة إيمانية تفسدها هذه المعاصي، ويقال هذا في النهي عن الجدال.

?ولا جدال في الحج?: نهي عن المجادلة والمخاصمة والمراء، وقيل: هو خبر عن انتفاء الجدال في موضع الحجّ، أو وقته، فقد رفع الله الجدال في الوجهين بين الخلق وأبطله إلى يوم القيامة، وهذا تعريض بالحُمْس (25) الذين خالفوا بقية الناس في بعض المناسك، والتقدير: ولا جدال في موضع الحجّ، أو: ولا جدال في وقت الحجّ (26).

ومن قال بالقول الأول جعل الجار? في الحجّ? متعلق بخبر محذوف يعود على المنهيات الثلاثة، ومن قال بالثاني جعله متعلقاً بالنهي عن الجدال فحسب.

والراجح هو القول الأول؛ لانسجام النهي عن الجدال مع باقي المنهيات المتقدمة، ولأن المحذوف وهو الخبر مفهوم من السياق، بخلاف القول الثاني، فإن المحذوف لا يفهم إلا من الروايات التي تذكر وجود خلاف في موضع الحج بين الحمس وغيرهم. ومن قال بالثاني كان غرضه الخروجَ من قضية أن الجدال منهيّ عنه قبل الإحرام، فلا وجه لتخصيصه في الحجّ، فقالوا بأن المقصود: نفي الجدال في موضع الحج ووقته.

وإذ قد تبيّن أن التزام هذه الآداب آكد في الحجّ، فقد صحّ حمل (لا) على النهي دون النفي. ويخرج من دائرة النهي عن الجدال الجدالُ بالحقّ، بل الواجب على المحرم الجدال فيما يراه باطلاً.

ثم لما نهى تعالى عن القبيح قولاً وفعلاً، حثّهم على فعل الخير على عمومه، ليستبدلوا القبيح بالحسن، "أو جعل فعل الخير عبارة عن ضبط أنفسهم، حتى لا يوجد منهم ما نُهوا عنه، وينصره قوله تعالى: ?وتزودوا فإن خير الزاد التقوى? " (27).

ثم أمرهم بالتزوّد لعاجل سفرهم ولآجله، وأخبر تعالى ـ مرشداً ومؤكداً ـ أن خير الزاد اتقاء عذابه بالابتعاد عن القبائح وفعل الحسنات، " ثم نادى ذوي العقول، الذين هم أهل الخطاب، وأمرهم باتقاء عقابه؛ لأنه قد تقدم ذكر المناهي، فناسب أن ينتهوا إلى اتقاء عذاب الله بالمخالفة فيما نهى عنه" (28).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير