تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وقال أبو حيان: "?واذكروه كما هداكم?: هذا الأمر الثاني هو الأول، وكُرّر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر؛ لأن الذكر من أفضل العبادات، أو غير الأول، فيراد به تعلقه بتوحيد الله، أي: واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته، أو اتصال الذكر، لمعنى: اذكروه ذكراً بعد ذكر" (20).

والضمير في ?قبله? يعود إلى (الهدى) المأخوذ من? ما? المصدرية والفعل، والمراد بالضلال هنا إما عدم المعرفة بمناسك الحجّ وشعائره إن كان المرادُ بالهدى تعليمَ المناسك، أو عبادة الأصنام إن كان المراد بالهدى نعمة الإيمان، وكلاهما فيه عدول عن المنهج.

(ثُمَّ أفِيْضُوا مِنْ حَيْثُ أفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللهَ إنَّ اللهَ غَفُوْرٌ رَحِيْمٌ)

مناسبة الآية لما قبلها

لما أمرهم الله عزّ وجلّ بالذكر عند الإفاضة من عرفات، أمرهم بأن يفيضوا من المكان الذي جرت عادة الناس أن يفيضوا منه، وهو عرفات، فالإفاضة المذكورة في الآية السابقة يجب أن تكون من عرفات لا من مكان آخر، ورَبَطَ بين الآيتين بحرف (ثم) الذي يفيد هنا الترتيب في الذكر لا في الزمان.

التفسير والبيان

ورد في صحيح البخاري حديث موقوف على السيدة عائشة ـ رضي الله عنها ـ، فسّرت فيه هذه الآية، قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة، وكانوا يُسمّون (الحُمْس)، وكان سائر العرب يقفون بعرفات، فلما جاء الإسلام، أمر الله نبيه? أن يأتي عرفات، ثم يقفَ بها، ثم يفيض منها، فذلك قوله تعالى: ?ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس (21).

فهذا أمر لجميع المسلمين بالإفاضة من عرفات لا من المزدلفة، والحُمْس يدخلون في هذا الخطاب دخولاً أولياً لِما كانوا عليه من الترفع والتعالي اللذين يتنافيان مع المساواة التي أرادها الإسلام من فريضة الحجّ.

والمراد بـ?الناس?: "الجنس كما هو ظاهر، أي من حيث أفاض الناس كلهم قديماً وحديثاً" (22)، و?ثم? تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق، فقد قال: ?فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم. . . ثم أفيضوا? الإفاضة قد تقدمت، وأُمروا بالذكر إذا أفاضوا، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بـ?ثم? التي تقتضي التراخي في الزمان؟

وتوضيح هذا من وجوه:

أحدها: أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال، وحسّن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأموراً بها، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فُعلت، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدلّ على الأمر بها، فكأنه قيل: ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحُمْس، وزعم بعضهم أن? ثم? هنا بمعنى الواو، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول، وقد جوّز بعض النحويين أن (ثم) تأتي بمعنى الواو، فلا ترتيب.

وقد حمل بعض الناس ?ثم? هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديماً وتأخيراً، فجعل ?ثم أفيضوا? معطوفاً على قوله: ?واتقون يا أولي الألباب?، كأنه قيل: ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم فإذا أفضتم من عرفات، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها تلك الإفاضة المأمور بها. لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة، وننزه القرآن عن حمله عليه، وقد أمكن ذلك بجعل ?ثم? للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان (23).

ثم حثّهم تعالى على استغفاره، والاستغفار هو طلب المغفرة التي هي تغطية الذنوب وسترها، إن الله سبحانه وتعالى غفور رحيم: يغفر ذنوب المستغفرين، ويسبغ عليهم رحمته.

[ line]

(1) تفسير المراغي، (272:1).

(2) ينظر: ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (جنح).

(3) الفراهيدي، العين، مادة (جنح).

(4) ينظر: ابن سيدة، المحكم والمحيط الأعظم، (86:3)، مادة (ح ج ن) مقلوبه (ج ن ح)، وابن منظور، لسان العرب، مادة (جنح).

(5) الفيروز آبادي، بصائر ذوي التمييز، (222:4).

(6) أبو حيان، البحر المحيط، (274:2).

(7) الفيروز آبادي، بصائر ذوي التمييز، (57:4).

(8) ابن فارس، معجم مقاييس اللغة، مادة (شعر).

(9) ينظر: الراغب الأصفهاني، المفردات، مادة (ضلّ).

(10) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب ?ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم?، رقم الحديث (4519)، ص (786).

(11) الزمخشري، الكشاف، (242:1).

(12) أبو حيان، البحر المحيط، (314:2).

(13) الحبال هنا بالحاء المهملة المكسورة، جمع (حبل)، وهو التلّ اللطيف من الرمل الضخم. شرح النووي على صحيح مسلم، كتاب الحجّ، باب حجة النبي حتى أتى المزدلفة صلى بها المغرب والعشاء، رقم الحديث (1218)، ج (3)، ص (342).

(14) صحيح مسلم، كتاب الحجّ، باب حجة النبي حتى أتى المزدلفة صلى بها المغرب والعشاء، رقم الحديث (1218)، ج (3)، ص (342).

(15) ممن قال بهذا الزجاج في (معاني القرآن)، (273:1)، وابن كثير، تفسير القرآن العظيم، (249:1)، وسيد قطب، في ظلال القرآن، (286:1)، وابن عاشور، التحرير والتنوير، (240:2).

(16) الزمخشري، الكشاف، (243:1)، وقال البيضاوي بهذا القول أيضاً، ينظر: أنوار التنزيل، (131:1).

(17) ينظر: القاسمي عن السيلكوتي، محاسن التأويل، (505:1).

(18) ينظر: ابن العربي، أحكام القرآن، (186:1)، والرازي، التفسير الكبير، (329:2).

(19) ينظر: ابن الحاجب، الأمالي النحوية، (211:1).

(20) أبو حيان، البحر المحيط، (298:2).

(21) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب? ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس?، رقم الحديث: (4520)، ص (768).

(22) الألوسي، روح المعاني، (485:1).

(23) ينظر: أبو حيان، البحرالمحيط، (301:2).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير