تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس ـ ومروياته هي أصح الروايات عن ابن عباس كما هو معلوم ـ أن معنى (تمنى): حدث نفسه، قال النحاس اللغوي الشهير: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأعلاه وأجلّه. قال القرطبي: وكذلك حكى الكسائي والفراء جميعا (تمنى) إذا حدث نفسه، وهذا هو المعروف في اللغة.اهـ

ورغم أن هذا المعنى ينحو بالآية منحى بعيدا عن قصة الغرانيق إلا ان الأكثرين ذهبوا مع المعنى الأول، بل إن القرطبي رحمه الله تعالى رد الثاني بقوله: قوله تعالى: {ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة} الآية. يرد حديث النفس، وقد قال ابن عطية: لا خلاف إن إلقاء الشيطان إنما هو لألفاظ مسموعة بها وقعت الفتنة، فالله أعلم. أهـ!!!

مع ان مفسرا قديرا متقدما علما وزمنا كابن جرير رحمه الله تعالى تنبه إلى ذلك فقال عن تفسير (تمنى) بمعنى (تلا): هذا القول أشبه بتأويل الكلام! واختار رحمه الله المعنى الثاني إلا أن معنى الآية لم يتضح تمام الإيضاح عند كل من قال بهذا المعنى الثاني ..

والعجب من ابن العربي رحمه الله تعالى في معرض تشنيعه ونفيه لما ورد في قصة الغرانيق من أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم ـ وحاشاه ـ تكلم بما ينافي الحق ويرضي الخلق، قال بعد ذلك: وما هُدي لهذا (أي نفي النسبة إلى النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ونسبة الكلام إلى الشيطان) إلا الطبري لجلالة قدره وصفاء فكره وسعة باعه في العلم وشدة ساعده في النظر. اهـ يقول رحمه الله هذا وهو يذهب إلى المعنى الأول في (تمنى) المتكئ على قصة الغرانيق!!!

وللإمام الرازي في تفسيره الكبير (مفاتيح الغيب) منهج دقيق منظم ـ على عادته ـ رحمه الله تعالى في تحليل الآية، يفيد الرجوع إليه جدا ..

وها قد وصلت ـ بعد إطالة أعتذر عليها ـ إلى نقل أجزاء من كلام سيد قطب رحمه الله (أُعدم في 1966 م) في ظلال القرآن عند قوله تعالى: {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ... } (ج 4 ص 2433): " هناك من النص ذاته ما يستبعد معه أن يكون نزول الآية شيئا كهذا (قصة الغرانيق بتفاصيلها المختلفة)، وأن يكون مدلوله حادثا مفردا وقع للرسول صلى الله عليه وسلم، فالنص يقرر أن هذه القاعدة عامة في الرسالات كلها مع الرسل كلهم {وما أرسلنا من قبلك من رسول ولا نبي ... } .. فلا بد أن يكون المقصود أمرا عاما يستند إلى صفة في الفطرة مشتركة بين الرسل جميعا، بوصفهم من البشر، مما لا يخالف العصمة المقررة للرسل .. وهذا ما نحاول بيانه بعون الله، والله أعلم بمراده، وإنما نفسر كلامه بقدر إدراكنا البشري .. إن الرسل عندما يُكلّفون حمل الرسالة إلى الناس يكون أحب شيء إلى نفوسهم أن يجتمع الناس على الدعوة، وأن يدركوا الخير الذي جاؤوهم به من عند الله فيتبعوه .. ولكن العقبات في طريق الدعوات كثيرة، والرسل بشر محدودو الأجل، وهم يحسون هذا ويعلمونه، فيتمنون لو يجذبون الناس إلى دعوتهم بأسرع طريق ( ... ) على حين يريد الله أن تمضي الدعوة على أصولها الكاملة، وفق موازينها الدقيقة، ثم من شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر، فالكسب الحقيقي للدعوة في التقدير الإلهي غير المشوب بضعف البشر وتقديرهم: هو أن تمضي على تلك الأصول وفق الموازين، ولو خسرت الأشخاص في أول الطريق ( ... ) ويجد الشيطان في مثل تلك الرغبات البشرية، وفي بعض ما يترجم عنها من تصرفات أوكلمات، فرصة للكيد للدعوة، وتحويلها عن قواعدها، وإلقاء الشبهات حولها في النفوس. ولكن الله يحول دون كيد الشيطان، وبين الحكم الفاصل فيما وقع من تصرفات أو كلمات، ويكلف الرسل أن يكشفوا للناس عن الحكم الفاصل، وعما يكون قد وقع منهم من خطأ في اجتهادهم للدعوة، كما حدث في بعض تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم وفي بعض اتجاهاته، مما يبين الله فيه بيانا في القرآن .. بذلك يبطل الله كيد الشيطان ويحكم الله آياته، فلا تبقى هنالك شبهة في الوجه الصواب، والله عليم حكيم .. فأما الذين في قلوبهم مرض من نفاق او انحراف، والقاسية قلوبهم من الكفار المعاندين، فيجدون في مثل هذه الأحوال مادة للجدل واللجاج والشقاق: وإن الظالمين لفي شقاق بعيد .. وأما الذين أوتوا العلم والمعرفة فتطمئن قلوبهم إلى بيان الله وحكمه الفاصل: وإن الله لهادي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم .. وفي حياة النبي صلى الله عليه وسلم وفي تاريخ الدعوة الإسلامية نجد أمثلة من هذا، تغنينا عن تأويل الكلام، الذي أشار له الإمام ابن جرير الطبري رحمه الله.

نجد من ذلك مثالا في قصة ابن أم مكتوم رضي الله عنه الأعمى الفقير ( ... ) كذلك وقع ما رواه مسلم في صحيحه ( ... ) عن سعد ابن أبي وقاص قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا ( ... ) فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع، فحدث نفسه، فأنزل الله عز وجل: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه} .. وهكذا رد الله لدعوة قيمها المجردة وموازينها الدقيقة، ورد كيد الشيطان فيما أراد أن يدخل من تلك الثغرة ( ... ) ولعله مما يلحق بالمثلين المتقدمين ما حدث في أمر زينب بنت جحش ( ... ) أخبر الله رسوله صلى الله عليه وسلم أنه سيزوجه من زينب بعد أن يطلقها زيد، لتكون هذه السنة مبطلة لتلك العادة (كراهة أن يتزوج المتبني مطلقة متبناه) ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أخفى في نفسه ما أخبره به الله ( ... ) وظل يخفي ما قدر الله إظهاره حتى طلقها زيد، فأنزل الله في هذا قرآنا ( ... ) يقرر القواعد القواعد التي أراد الله أن يقوم تشريعه في هذه المسألة عليها ( ... ) هذا هو ما نطمئن إليه في تفسير تلك الآيات، والله الهادي إلى الصواب " اهـ

ما أحوجنا إلى مثل هذا النهج في التفسير، يراعي المرويات كما يراعي قبلها السياق القرآني للآيات، ويستفيد مما صح عن الصحابة وأيده المعروف من اللغة في توجيه المعنى بما يغني القارئ، فرحم الله سيد قطب .. آمين

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير