وإنَّي أعلمُ أن قومًا ممن يطعنونَ عليَّ = لو كانَ الله تعالَى قدَّرَ أن أكونَ في عهدِ الأولينَ، ثمَّ رأوا هذا القولَ، وتلكَ الحججَ منسوبةً إليَّ، لأقبلوا عليهِا يدرسُونَه، ويستنبطونَ منها، ولكانَ غايةَ أحدِهم، ومنتهى مناهُ أن يقالَ عنه: (فلانٌ يحسِنُ قراءَةَ كتبِ أبي قصيِّ، أو يفهمُ عنهُ ما يقولُ)
وكفى بهذا القول دليلا على غرور صاحبه وجهله وتعاليه.
كانت هذه مقدمة لا بد منها لإحقاق الحق وكشف الباطل وتنبيه الغافل الذي يغتر بالكلام المزخرف.
وأقول: بل دخل الجار على (اب) لأنه اسم حكي به لفظ الحرف على نحو خاص أي حكي مقتطعا من كلمة معينة ساكنا بلفظه.
وسأجيب عن الشق الثاني من السؤال، وهو الإعراب الذي أعرضتم عنه:
بابْ: (الباء) حرف جر مبني على الكسر لا محل له، (ابْ) اسم مجرور وعلامة جره كسرة مقدرة منع ظهورَها اشتغال المحل بسكون الحكاية.
أقول:
لفظ الحرف أو الفعل أو الاسم أو الجملة، أو الكلمة الأعجمية كل ذلك لا يعد اسما اصطلاحيا، وإنما هو لفظ واقع موقع الاسم، فعندما نقول: تلفظ الباء الساكنة (اب) وسميت بـ (اب) لا يصير اللفظ اسما لدخول الجار عليه وإنما هو لفظ واقع موقع الاسم، أو مؤول باسم، وليس باسم، وقد مثلت بالجملة ليكون التمثيل أوضح، فعندما أقول: سميت رجلا بـ (جاء زيد)، فإن (جاء زيد) في عبارتي هذه ليس اسما وإنما هو لفظ لجملة، فإذا أردت إعرابه، أقول: (جاء زيد) لفظ جملة في محل جر، ولا تقدر عليه العلامة، أو لفظ جملة يؤول باسم تقديره هذا اللفظ، ف (جاء زيد) في هذا السياق ليس باسم ولا فعل ولا حرف، ومثله لفظ حرف الهجاء الساكن، لذلك فإعرابك خطأ، والصحيح أن تقول: اب: لفظ لحرف من حروف الهجاء في محل جر بالباء، ولا تقدر الحركة كما لا تقدر على المبني.
وكذلك لو قلت: ثانكز لفظ يعني شكرا بالانكليزية، فثانكز هنا لفظ أعجمي في محل رفع مبتدأ، ولا تقدر عليه الحركة، كما لا تقدر على الاسم المبني.
فإذا سميت رجلا بثانكز، أعربته فتقول: جاء ثانكزُ.
فإذا كان اللفظ المسمى به جملة فإنك في حال الحديث عن لفظ الجملة لا تقدر عليه الإعراب، كما في المثال السابق، سميت رجلا بـ (جاء زيد) وإنما تقول: لفظ جملة في محل جر بالباء، ولا تقدر الحركة، فإذا صار هذا اللفظ اسم علم لذلك الرجل وأردت الإخبار عن مجيئه قلت: جاء جاء زيد، وتقول في إعراب (جاء زيد) فاعل مرفوع وعلامة رفعه الضمة المقدرة منع من ظهورها حركة الحكاية.
فهذا تصحيح للمسألة لك ولغيرك.
وإنما مثلت للفظ (اب) بالجملة لأن من الجلي أن الجملة لا تكون اسما فالتمثيل بها أيسر على طالب العلم، وبخاصة أن لهما الحكم نفسه فكلاهما يراد به اللفظ فقط.
وكون اللفظ واقعا موقع الاسم لا يعني أنه صار اسما، كما لا يعني وقوع المصدر موقع الاسم المشتق أنه صار مشتقا، تقول: ذهبت مشيا، فتجعل مشيا حالا، وتقول: مصدر مؤول باسم فاعل، أي: ماشيا، وهذا لا يعني أن مشيا هنا اسم فاعل.
أقول: لكنْ لا يدخل الجار على الجملة إذا كانت على أصلها كما لم يدخل على الباء وهي في فعلها (اضربْ)، وإنما يدخل الجار على الجملة إذا حكي لفظها فصارت اسما وإن لم تكن علما كقولك (بدأت العبارة بجاء زيدٌ) كما حكي لفظ الباء الساكنة فصارت اسما بحكاية اللفظ قبل العلمية وذلك في قوله (ولو سميت رجلا باب ... ) فكان دخول الجار دليلا على الاسمية لما حكيت بدليل أن الباء دخلت عليها قبل العلمية والتنوين، وإنما صارت علما في قوله ( ... قلتَ ابٌ) فنون لما استغنى عن حكاية لفظ الحرف.
في كلامي السابق رد على هذا أيضا، ولكن يهمني ما لونته بالأحمر، فلو طبقنا هذه القاعدة، وهو أن دخول الجار على أي لفظ دليل على اسميته لو طبقنا هذا لقلنا لسيبويه يا سيبويه أنت تقول:
(وإذا سميت رجلا بـ (اضرب) أو (اقتل) أو (اذهب) لم تصرفه وقطعت الألفات حتى تصير بمنزلة الأسماء .. )
فأدخلت الباء على (اضرب) فصار (اضرب) هنا اسما، وإذا صار اسما لم يجز قطع الألف لأن ألف الوصل في الأسماء لا تقطع في التسمية.
ويقال لك يا علي: أنت تقول:
إذا سمينا رجلا بال تقلب همزتها إلى همزة قطع في التسمية، فتدخل الجار على ال، فتجعلها اسما، لأن الجار لا يدخل إلا على الاسماء، وإذ جعلتها اسما امتنع قطع همزتها لأن همزة الوصل في الأسماء لا تقطع في التسمية.
أي منطق هذا؟
أما عن قولي:
ضبطتها بالكسر (أي همزة ابْ)، وحقها أن تكون بالفتح قياسا على همزة ال، وذلك لتمييز همزة الوصل الداخلة على الحروف من الداخلة على الأفعال أو الأسماء.
فقصدي الآتي:
وجدت أنه للتلفظ بحرف هجائي ساكن لا بد من إدخال همزة وصل عليه، فكيف تكون حركة همزة الوصل؟ نظرت فوجدت أن همزات الوصل في الأفعال والأسماء مكسورة في الغالب، أو مضمومة، ووجدت همزة الوصل في الحرف الاصطلاحي (ال) مفتوحة، فقلت حرف الهجاء المفرد أقرب إلى الحرف الاصطلاحي (ال) فيجب أن تكون الهمزة المجتلبة للتلفظ بحروف الهجاء الساكنة مفتوحة كهمزة ال، لتمييز همزة الوصل الداخلة على ألفاظ حروف الهجاء عن الداخلة على الأسماء والأفعال، فهل في هذا مأخذ؟
ويبقى ما ذهبت إليه من أن مذهب سيبويه لا يختلف عن مذهب الخليل في ال، وأن همزة ال لا تقطع في التسمية عند سيبويه، إلى أن يأتي لي باحث بنص من الكتاب يخالف ما ذهبت إليه.
وهذا آخر ما في الجعبة، فمن شاء فليفهم ومن شاء فليضرب بقولي عرض الحائط، فإنما علي البيان.
والله الموفق والهادي إلى سواء الصراط.
¥