وقوله: يقول الخنا وأبغض العجم ناطقاً إلى ربا صوت الحمار اليجدعُ
وقوله: ماأنت بالحكم الترضى حكومته ولا الأصيل ولا ذي الرأي والجدلِ
وهذا من أقبح الضرورات ولايجوز استعماله في سعة الكلام)) (9)
وقال ابن السراج في كتاب الأصول: لما احتاج الى رفع القافية قلب الاسم فعلاً وهو من أقبح ضرورات الشعر، وقد صرّح صاحب الإنصاف في مسائل الخلاف بخطئها لشذوذها قياساً واستعمالاً وعلّل ورودها في الأمثلة السابقة بضرورة الشعر فالضرورة لا يقاس عليها كما لو اضطرّ إلى قصر الممدود أو مد المقصور وعلى ذلك سائر الضروات فلا يدُل جوازه في الضرورة على جوازه في غير الضرورة فسقط الاحتجاج به (10) 2ـ والبعض الآخر جعل دخولها اختياراً، ومنهم ابن مالك وفاقاً لبعض الكوفيين وقد ذكر مذهبه السيوطي في همع الهوامع وأوردنا قوله آنفاً، فعلى رأي ابن مالك أن دخول (ال) على المضارع لايختص بالشعر بل قد يجوز في الاختيار، قال:
((وعندي أن مثل هذا غير مخصوص بالضرورة، لتمكن قائل الأول أن يقول:
(ماأنت بالحكم المرضي حكومته) ولتمكن قائل الثاني من أن يقول
(إلى ربنا صوت الحمار يجدعُ) ولتمكن الثالث من أن يقول (ما من يروح)
ولتمكن الرابع من أن يقول (وما من يرى) فإذا لم يفعلوا ذلك مع استطاعته
ففي ذلك إشعار بالاختيار وعدم الاضطرار، وأيضاً فمقتضى النظر وصل
الألف واللام إذ هما من الموصولات الاسمية بما توصل به أخواتها من الجمل
الاسمية والفعلية والظروف فمنعوها ذلك حملاً على المعرّفة، لأنها مثلها
في اللفظ وجعلوا صلتها ما هو جملة في المعنى ومفرد في اللفظ صالح
لدخول المعرفة عليه، وهو اسم الفاعل وشبهه من الصفات، ثم كان في
التزام ذلك إيهام إن الألف واللام معرفة لا اسم موصول فقصدوا
التنصيص على مغايرة المعرفة، فأدخلوها على الفعل المشابه لاسم الفاعل
وهو المضارع فلما كان حاملهم على ذلك هذا السبب وفيه
إبداء ما يحق إبداؤه وكشف ما لا يصلح خفاؤه استحق أن
يجعل مما يحكم فيه بالاختيار ولا يخص بالاضطرار ولذلك
لم يقل في أشعارهم، كما قل الوصل بجملة من مبتدأ
وخبر كقوله: من القوم الرسول الله منهم)) (11)
وقد نبّه سيبويه على أن ماورد في الشعر من المستندرات لايعد اضطراراً، إلا إذا لم يكن للشاعر في إقامة الوزن وإصلاح القافية مندوحة ... ومما يشعر بأنهم فعلوه اختياراً أنهم لم يفعلوا ذلك إلا بالفعل المضارع لكونه شبيه باسم الفاعل أما قول الشاعر: من القوم الرسول الله منهم ... فنادر معدود من الضرورات لأن (ال) فيه بمعنى الذين ولا يتأتى له الوزن إلا بما فعل (12)
ورأي ابن مالك كرأي سيبويه مما يوحي بتأثره به.
ويمكننا أن نرد على ابن مالك كما ردّ عليه صاحب تعليق الفرائد فنقول بأن ابن مالك عبّر بالضرورة الشعرية عن: ما ليس للشاعر منه مندوحة، وهذا غير صحيح، يقول ابن عصفور (ت 669) في كتابه ضرائر الشعر ((إن الشعر لما كان موزوناً، أجازت العرب فيه ما لايجوز في الكلام اضطروا إلى ذلك أم لم يضطروا إليه، لأنه موضع أُلفت فيه الضرائر))
(13)
لأن الشاعر لا يلزمه تخيل جميع العبارات التي يمكن أداء المقصود بها فقد لا يحضره في وقت النظم إلا عبارة واحدة تؤدي مراده فيكتفي بها ولو فتح هذا الباب لاتسع الخرق وأمكننا في كل ما يدعى أنه ضرورة أن يدعى أنه أمر اختياري لتمكن الشاعر من أن يقول غير تلك العبارة، ويعين تركيبا آخر تم الوزن به: وهذا سهل على من له محاولة لنظم الشعر، ولايكاد يعوزه ذلك في جميع الأشعار أو غالبها فهذه طريقة كما تراها والمعول عليه عندهم في تفسير الضروره أنه مالايوجد إلا في الشعر كان للشاعر عنه مندوحة أو لم يكن. (14)
وخلاصة القول:
أن العلماء قد اختلفوا في حكم (ال) فقال الجمهور بشذوذها فما جاء منها في الشعر فهو ضرورة وعلى ذلك البصريون، وقال ابن مالك بجوازها في السعة أي أنها اختيار في الشعر والنثر وقد وافق بذلك رأي الكوفيين، والمعروف أن العرب لم تُدخل (ال) على الفعل لأنها كرهت إدخال (ال) الموصولة عليه وهي شبيهة بـ (ال) التعريف المختصّة بالأسماء فأتت بما يجوز إدخال (ال) التعريف عليه وما يؤدي معنى الفعل في الوقت نفسه وهو اسم الفاعل ومايتبعه من الصفات، وهذا يدُل بوضوح على كراهية العرب لهذا الأسلوب في التعبير وبالتالي شذوذه وندرته، فلا يسعنا بعد تفصيل الموضوع وتفنيد رأي ابن مالك إلا أن ننضوي تحت لواء الجمهور ونحكم عليها بالضرورة فيما سيُقابلنا من شواهد.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) انظر تعليق الفرائد على تسهيل الفوائد للدماميني، ج2 ص185
(2) انظر تعليق الفرائد للدماميني ج2 ص191
(3) انظر الجنى الداني للحسن بن القاسم المرادي ص201
(4) ارتشاف الضرب لأبي حيان ج1 ص531
(5) انظر الكافية في النحو لابن الحاجب المالكي ص35
(6) تعليق الفرائد للدماميني ج2 ص212 - 213
(7) الكافية لابن الحاجب ص35
(8) همع الهوامع للسيوطي ج1 ص85
(9) معاني الحروف لابي الحسن الرماني النحوي ص68
(10) انظر الإنصاف في مسائل الخلاف لكمال الدين ابي البركات. ص151
وانظر خزاة الأدب للبغدادي ص31
(11) شرح التسهيل لابن مالك، لجمال الدين الجيّاني الأندلسي ص202
وانظر في علم النحو د. امين علي السيد ص149 - 150
والجنى الداني في حروف المعاني للحسن ابن القاسم المرادي ص201 - 202
و همع الهوامع للسيوطي ج1 ص85 و خزانة الأدب للبغدادي ج1 ص33
وتعليق الفرائد للدماميني ج2 ص 116 - 117و ارتشاف الضرب لأبي حيان ص 531
(12) انظر شرح الكافية الشافية. للعلامة جمال الدين الطائي الجتاني ص300 - 301
(13) ضرائر الشعر. تحقيق السيد ابراهيم محمد _ ص13
(14) انظر تعليق الفرائد للدماميني ج2 ص 218 - 219
¥