أما بقية الفنون فتعلم الفقه المالكي وهو السائد في بلاده، فدرس مختصر خليل على يد الشيخ محمد بن صالح إلى قسم العبادات، ثم درس عليه أيضًا ألفية بن مالك، ثم أخذ بقية العلوم على مشايخ متعددين، وكلهم من الجنكيين، وهي القبيلة التي ينتمي إليها الشيخ، وكانت معروفة بالعلم حتى قيل:" العلم جنكي " وكانت الطريقة المعهودة في بلاده هي أن يبدأ الطالب بفن واحد من الفنون، ويبدا بكتابة المتن في اللوح الخشبي فيكتب قدر ما يستطيع حفظه، ثم يمحوه ثم يكتب قدرًا أخر، غير أنه ـ رحمه الله ـ تميز في طلب العلم فألزمه بعض مشايخه بأن يقرن بين كل فنين، حرصًا على سرعة تحصيله، وقد انشغل ـ رحمه الله بطلب العلم حتى تأخر في الزواج، ولما كلمه البعض في أمر الزواج رد عليهم قائلاً:
فقلت لهم دعوني إن قلبي من الغي الصراع اليوم صاح
الشيخ والشعر:
كان الشيخ ـ رحمه الله ـ ذا قريحة وقادة، وكانت شاعريته رقراقة، ومعانيه عذبة فياضة، وأسلوبه سهل جزل، وبالرغم من هذا كله فقد كان رحمه الله يتباعد عن قول الشعر.
سأله تلميذه الشيخ عطية محمد سالم ـ رحمه الله ـ عن سبب تركه للشعر مع قدرته عليه وإجازته فيه فقال: تذكرت قول الشافعي فيما ينسب إليه:
ولولا الشعر بالعلماء يزري لكنت اليوم أشعر من لبيد
ومثل هذا قاله ابنه عبد الله، وقال أيضًا: وجدت شعرًا لأبي عند أحد الناس فأردت حفظه، فقال لي: استأذن أباك، فاستأذنته فزجرني بشدة، ونهاني عن تعلمه ونسبته إليه.
وحدث أن قدم يومًا ـ رحمه الله ـ وهو في مقتبل شبابه، ولم يكن يعرفه فسأله من يكون فأجاب الشيخ ـ رحمه الله ـ مرتجلاً:
هذا فتى من بني جاكاني قد نزلا به الصبا عن لسان العرب قد عدلا
رمت به همة علياء نحوكم إذ شام برق علوم نوره اشتعلا
فجاء يرجو ركامًا من سحائبه تكسو لسان الفتى أزهاره حللا
إذا ضاق ذرعًا بجهل النحو ثم أبا ألا يميز شكل العين من فعلا
قد أتى اليوم صبا مولعًا كلفا بالحمد لله لا أبغي له بدلا
أعماله وجهوده في نشر العلم قبل قدوم المملكة:
كانت أعماله ـ رحمه الله ـ كعمل غيره من العلماء: الدرس والفتيا، واشتهر ـ رحمه الله ـ بالقضاء وبالفراسة فيه، وقد كان الناس يفدون إليه من أماكن بعيدة، وكان عضوًا في لجنة الدماء التي تعرض عليها أحكام القصاص من القتلى والتي كانت تتكون من عضوين للتصديق على أحكام الحاكم الفرنسي.
أخلاقه:
أما عن أخلاق الشيخ ـ رحمه الله ـ فحدث ولا حرج، فهو آية في أخلاقه، كرمه، وعفته، وشجاعته، وزهده، وترفُّع نفسه، فهو صاحب ميزة فيها يقول تليمذه الشيخ عطية محمد سالم: فهذا ما يستحق أن يفرد بحديث وإني لا أستطيع إلا تصويره ولا يسعني في هذا الوقت تفصيله.
لم تكن الدنيا تساوي شيئًا عنده، وكان غير مكترث بها، على طول فترة إقامته بالمملكة لم يطلب عطاء ولا راتبًا ولا ترفيعًا لمرتبه، ولا حصولاً على مكافأة، ولكن ما جاء من غير سؤال أخذه، وما حصل عليه لم يكن ليستبقيه لنسفه؛ بل يوزعه على غيره كما يقول الشيخ عطية محمد سالم ـ رحمه الله ـ: كان كثير التغاضي عن أمور تخصه هو، وتتعلق بنفسه فإن سئل عن ذلك تمثل قول الشاعر:
ليس الغبي بسيد في قومه لكن سيد قومه المتغابي
تواضعه:
أما عن تواضعه فقل إنه صاحبه، كان إذا سئل مسألة في أخريات حياته، تباعد عن الفتيا، فإذا اضطر قال: لا أتحمل في ذمتي شيئًا العلماء يقولون كذا، وكذا.
يقول الشيخ عطية محمد سالم: سألته مرة عن ذلك ـ أي تحفظه في الفتيا ـ فقال: إن الإنسان في عافية ما لم يبتلى، والسؤال ابتلاء، لأنك تقول عن الله ولا تدري أتصيب حكم الله أم لا، فما لم يكن عليه نص قاطع ـ من كتاب الله أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ وجب التحفظ فيه ويتمثل بقول الشاعر:
إذا ما قتلت الشيء علمًا فقل به ولا تقل الشيء الذي أنت جاهله
فمن كان يهوى أن يرى متصدرًا ويكره لا أدري أصيب مقاتله
ألا ليت شعري ألا يتأمل المتعجلون في الفتوى لمثل هذا، ألا يرحم ناشئة طلاب العلم أنفسهم والناس من الفتاوى السريعة، والأجوبة الجاهزة، والأحكام الجريئة.
¥