وحدّثنا كذلك عن حبّ الأمير عبدالرحمن بن الحكم لجاريته (طروب) التي تزوجها وبقيت المرأة الوحيدة المحبوبة حتى آخر حياته.
ابن زيدون
لابد لمن يتحدث عن الحبّ في الأدب الأندلسي من التوقف عند الشاعر العظيم ابن زيدون وحبّه للأميرة ولادة بنت المستكفي بالله, آخر الخلفاء الأمويين في القرن الحادي عشر الميلادي.
نشأ ابن زيدون في بيت علم وجاه واشتُهر منذ مطلع شبابه بجودة شعره ونثره, وسعة ثقافته ووسامة طلعته, وشبّت ولادة في قصر الخلافة من أم أجنبية, فكانت آية في الجمال, كما وصفها المؤرخون وكذلك ابن زيدون في شعره, ميّالة للتحرر, فتحت قصرها لاستقبال الشعراء والأدباء بعد مقتل أبيها متحرّرة من القيود السابقة, فكان لمنتداها أثر كبير في المجتمع القرطبي إبان حكم أبي الحزم بن جهور فيه, وأثرٌ أعمق في حياة ابن زيدون وشعره منذ أن التقيا في ندوتها, وهو وزير آنذاك في حكومة ابن جهور.
لم يكن ابن زيدون أقلّ عراقة من الأميرة ولادة لتحدره من أسرة المخزومي المعروفة, فأُعجبت به بادئ الأمر وهام هو بها منذ أول لقاء في قصرها, فأخذا يتبادلان الرسائل الشعرية بعد فترة وجيزة التي عبّرت لنا عن حبهما الكبير على مدى ثلاثين سنة من حياتهما, ولكن ما وصل إلينا من شعر ولادة قليل جدا بالقياس إلى قصائد ابن زيدون فيها التي تملأ ديوانه بالإضافة إلى رسالته الهزلية التي وجّهها إلى خصمه في حبها الوزير ابن عبدوس.
لقد نعم ابن زيدون بحبه لولادة وشقي لما لقيه من مؤامرات عليه أدّت إلى بعده عنها وعن قرطبة ولكنها لم تتمكن من تدمير حبّه الجامح لها. لقد أرسل إليها بعد أوّل لقاء هذين البيتين الرقيقين:
ما جالَ بَعْدَكِ لحْظي في سَنا قمرٍ
إلا ذكرتُكِ ذكرَ العَيْن بالأَثَرِ
فهمتُ معنى الهوى من وَحْي طَرفِكِ لي
إن الحِوارَ لمفهومٌ من الحَوَرِ
تشير أشعار ابن زيدون في ولادة إلى أنها لعبت بعواطفه في بادئ الأمر مع أنها أعجبت به منذ أول لقاء, فكان يرسل إليها أبياتاً من شعره المعبّر بصدق عن حبه لها دون أن تتجاوب أو تردّ عليها إلى أن أعربت له عن ميلها إليه بإرسال باقة من الياسمين له بواسطة جاريتها عتبة الملازمة لها, ففرح ابن زيدون وأيّما فرح, وأرسل إليها الأبيات التالية يخاطبها فيها بصيغة المذكّر دفعاً للشبهات:
ورامشةٍ يَشْفِي الغليلَ نسيمُها
مُضمّخةِ الأنفاسِ, طيبةِ النَّشْرِ
أشارَ بها نحوي بنانٌ مُنْعَمٌ
لأَِغيد مكحولِ المدامعِ بالسِّحْرِ
إذا هو أهدى الياسمينَ بِكَفِّهَِ
أَخذتُ النجومَ الزُّهْرَ من راحةِ البَدْرِ
له خُلُقٌ عذبٌ, وَخلْقٌ مُحَسَّنُ
وطرفٌ كَعَرْفِ الطيبِ أوْ نَشْوَةِ الْخَمْرِ
يُعَلِّلُ نفسي من حديثٍ تَلَذُّهُ
كَمِثْلِ المنى والوَصْلِ في عُقْبِ الهَجْر
ولما لم تردّ بعث إليها بأبيات لاحقة من أرق شعره فأرسلت إليه مع جاريتها عُتْبة قصاصة تقول له فيها:
ترقَّبْ إذا جُنَّ الليلُ زيارتي
فَإني رأيتُ الليلَ أكْتَمَ للْسِّرِّ
وبي مِنْك ما لو كانَ بالشمسِ لم تَلُحْ
وبالبدْرِ لم يَطْلُعْ, وبالنجم لم يسْرِ!
الحب كالعطر .. يفوح
أحسّ ابن زيدون أنه ملك الدنيا كلها عندما قرأ بوحها بحبها له, وهذا دليل قاطع على حرية المرأة الأندلسية في الإعراب عن عواطفها آنذاك, ولكن التكتّم في حبّ هذين العاشقين لم يُجْدِ فتيلاً إذ لم يلبث أن شاع أمرهما بين الناس, ولاسيما في مجلس ولادة الأدبي, وأثار حفيظة الطامعين بحبها أمثال ابن عبدوس وابن القلاس, وبعد فترة وجيزة تعكّرت الصلة بين العاشقين وتآمر خصما ابن زيدون في حبها عليه إذ اتهماه باغتصاب عقار زورا وبهتانا فسُجن في قرطبة ثم تمكن من الفرار إلى ضاحية (الزهراء) أولا ومنها إلى إشبيلية حيث تسلّم منصب المستشار في بلاط ملكها المعتضد بالله, وبعد ذلك عُيّن وزيرا للمعتمد بن عباد الذي تولى الحكم بعده, ولكن لا السفارة ولا الوزارة ولا التكريم الذي نعم به في بعده القصري عن الحبيبة استطاع أن يطفئ نار الحب في قلبه فظلّ يرسل القصيد إثر القصيد متغنيّاً بها, معرباً عن عمق حبه لها واشتياقه إليها بقصائد رائعة حتى آخر حياته, منها رائعته المشهورة التي مطلعها:
أضحى التنائي بديلا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
أما القصيدة التي مطلعها
ودّع الصبر مُحبٌّ ودّعك
¥