ذائع من سِرِّهِ مااستودعك
فقد نسبها بعضهم إلى ابن زيدون والبعض الآخر إلى ولادة التي عاشت حياتها كلها في قرطبة إلى أن تُوفيت فيها دون أن تتزوج عام 1087م, في حين توفي ابن زيدون في إشبيلية عام 1070م. وهنا يجدر بالذكر أن أمير الشعراء أحمد شوقي عارض تلك القصيدة الرائعة وغناها الموسيقار عبدالوهاب وهذا مطلعها: رُدتّ
الروحُ علي للمضنى مَعَك
أَحْسَنُ الأيامِ يومٌ أرجعك
غزل الحبيبة
انتقل بالحديث عن الحب في الأدب الأندلسي إلى شاعرة رقيقة عاشت في (وادي الحجارة) بالقرب من مدريد وتغزلت بالرجل الذي أحّبته دونما حرج, هي (حفصة بنت حمدون) إذ قالت:
لي حبيب ولا ينثني لعتاب
وإذا ما تركتُهُ زاد تيها
فقال لي: هل رأيت لي من شبيهٍ
قلتُ أيضاً: وهَلْ ترى لِي شبيها?
كما ينبغي أن نذكر شاعرة أندلسية أصلها من بغداد هي: (قمر البغدادية) قضت حياتها في إشبيلية في القرن التاسع الميلادي وقد ظهر حنينها لوطنها الأم بهذه الأبيات الرقيقة:
آهاً على بغدادها وعراقها
وظبائِها والسّحرِ في أحداقِها
ومجالها عند الفراتِ بأَوْجُهٍ
تبدو أَهِلَّتُها على أطواقِها
نفسي الفِداءَ لها فكُّل المحاسِنُ
في الدهر تُشْرِقُ من سَنا إشراقِها
عندما نُعيد قراءة كتب التراث الأندلسي الأدبي والفني يدهشنا عدد الشاعرات اللواتي نبغن سواء إبان الحقبة الذهبية للحكم العربي أو بعدها حتى آخر ذلك الحكم في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي. لقد اشتهرت في غرناطة شاعرة مجيدة هي حفصة بنت الحاج الركونية التي أحبت الوزير الشاعر أحمد بن سعيد وأحبها ونافسه في حبها أمير دولة الموحدين (عبدالرحمن بن عليّ) فمن أسلس شعرها فيه قولها:
أزورُكَ أم تزورُ? فإن قلبي
إلى ما تشتهي أبداً يميلُ
فعجّل بالجواب فما جميلٌ
إباؤُكَ عن بُثَيْنَةَ يا جميلُ!
وبعد أن فجعت بقتله بأمرٍ من خصمه بحبها الأمير عبدالرحمن بن علي رثته بقصيدةٍ طويلة محزنة للغاية كان مطلعها:
ولو لم تكن نجما لما صار ناظري
وقد غبْتُ عنه, مُظلِماً بَعْدَ نورِهِ
إن من أظرف الشاعرات الأندلسيات (قسمونه بنت إسماعيل) التي كانت جميلة جداً ومع ذلك لم يتقدم للزواج منها أحد فوقفت أمام مرآتها متحسّرة وأنشدت تقول:
أرى روضةً قد حانَ منها قطافُها
ولستُ أرى جانيا يَمُدُّ لها يدا ...
وأخيراً أودّ أن أذكر الشاعرة (أم الهناء) التي عرفت برقة الشعر والغزل العفيف بمن أحبّت, ومنه هذه الأبيات السلسة:
جاءَ الكتابُ من الحبيبِ بِأَنَّهُ
سَيَزُورُني فاستعبرتْ أجفاني
غَلَبَ السرورُ عليَّ حتى أنه
من عُظم فَرْطِ مسرّتي أبكاني
يا عينُ صارَ الدمعُ عندكِ عادةً
تبكينَ من فَرحٍ ومن أحزانِ
فاستقبلي بالبِشْرِ يَوْمَ لقائِهِ
وَدَعي الدموعَ لِلَيْلَةِ الهجران!
ونبغت في الأندلس شاعرة غرناطية هي (نزهون) من أرق الشاعرات طبعاً, وأكثرهن سرعة بديهة. كان لها مجلس أدبي في غرناطة يؤمه الشاعر (أبوبكر المخزومي) الأعمى فقدم إلى بيتها أحد الظرفاء من أصدقائها وخاطب المخزومي قائلاً:
لَوْ كُنْتَ تَعرِفُ مَنْ تخاطِبُهُ
ولم يتمكن من ارتجال الشطر الثاني فانبرت نزهون وأكملته منشدةٌ:
لغَدَوْتَ أَخْرَسَ من خلاخِلِهِ
البدرُ يَطْلُعُ من أَزِرَّتِهِ
والغُصْنُ يَمْرَحُ في غلائِلِهِ!
ومن نوادر نزهون أن الشاعر ابن قزمان أتى مجلسها ليناظرها وكان يرتدي حُلَّةً صفراء فلما رأته قالت له على الفور:
إنك اليوم كبقرة بني إسرائيل صفراء فاقعٌ لونُها لا تسِرُّ الناظرين!
إن هذه الأخبار الدالّة على تحرّر النساء الأندلسيات من القيود الاجتماعية السائدة في المشرق العربي آنذاك هي دليل على تحرّر المرأة إبان ازدهار الحكم العربي في الأندلس, وظهور مواهبها, فقد ذكر المؤرخ المقري في موسوعته (نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب) ما يزيد على ثلاثين شاعرة اشتُهرن بثقافة مشرقية متينة واستمتعن بحرية في تصوير أحاسيسهن, كان جوار أوربا, وتألق المجتمع الأندلسي من أسبابها إبان تلك العصور الغابرة.