ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[23 - 10 - 2009, 11:48 م]ـ
تابع:
لعل هذه الأسباب دفعت الشاعر إلى التوجه نحو القيصر لمساعدته. وأعتقد أنه في طليعة من توجه إلى ملك رومي؛ إذ لم يحدث لملك عربي من مملكة كندة العربية الأعرابية أن فعل هذا. فمملكة كندة كانت شوكة في حلق الفرس والمناذرة معاً، ولم تكن على وفاق مع الغساسنة؛ ولا أدل على هذا من البيتين السابقين. وقد استفاد الروم من هذا العداء القائم بين كندة من جهة وبين الفرس والمناذرة من جهة أخرى. ومهما يكن من أمر كندة فقد تهاوت أركانها تحت وطأة ظلم ملوكها لرعيتهم، مما جعلها تنقض عليهم واحداً تلو الآخر، وكان بنو أسد قد انقضوا على حجر فقتلوه. لم يكن تهدم هذه الملكة بسبب ضغوط خارجية عنها – وإن كان الفرس والروم يعمدون أحياناً إلى ضرب القبائل العربية بعضها ببعض كما فعلوا بين المناذرة والغساسنة – وإنما كان نتيجة أكيدة للظلم الذي مارسه ملوكها.
توجه امرؤ القيس إلى السموءل بناء على نصيحة رجل من بني فزارة كان يأتيه في حصنه؛ في تيماء. وتروي الأخبار أن للسموءل منزلة خاصة عند الحارث الغساني، وهذا بدوره سيمد للشاعر يد العون، ويوصله إلى القيصر (16). وينتهي امرؤ القيس إلى السموءل فينزل مع ابنته وحاجاته وأصدقائه عنده، ويستودعه ابنته وأدرعه وماله، ويبقي معها يزيد بن الحارث بن معاوية، ويختار لصحبته جابر بن حُنَي التغلبي وعمرو بن قميَّة. ويروي الخبر أن السموءل وجه امرأً القيس إلى الحارث الغساني وزوده برسالة شفاعة كي يتوسط له عند قيصر (17).
إن نظرة متأملة إلى هذا الخبر – وإن تكن عجلى – توضح بهتانه، وتفضح كذب ناسجيه. ولعل أكثر ما ينفيه محاولة الاستيلاء التي قام بها الحارث الغساني على أدرع الشاعر (18)، وكلنا يعرف أن الحارث قتل أحد أجداد امرئ القيس وهو عمرو بن حجر الملقب بالمقصور (19). فاستعانته بالحارث للوصول إلى بلاط الروم قصة عجيبة غريبة تنكرها أخبار القبيلتين، وخبر امرئ القيس معه باطل ينكره الشعر الذي تقدم ولا يؤكده أي بيت في الديوان. فلو قرأه المرء لما وجد بيتاً واحداً يوحي برد الجميل للحارث الغساني. ترى ألا يستحق مدحاً وثناء على صنيعه؟ وكيف يتفق عدم ذكره وكلنا يعرف أن الشعراء شدوا الركاب إليه مادحين؟ ولعل أبرزهم النابغة الذبياني وعلقمة الفحل وحسان بن ثابت وغيرهم (20). ويبرز شعره أنه مرَّ بحوران وخملى وأوجر من بلاد الشام ويذكر أنه لم ير ما يُسرُّ به بعد أن قطعت الحاجة أسباب اللقاء بأهله، وبأسماء.
ويجتاز تلك الأماكن إلى حماة وشيزر على إبله التي أجهدها في السير (21):
تذكرت أهلي الصالحين وقد أتت على خَمَلى خُوص الركاب وأوجرا
فلما بدت حوران في الآل دونها نظرتَ فلم تنظر بعينيك منظرا
تقطَّعَ أسبابُ اللبانة والهوى عشية جاوزنَا حماة وشيزرا
بسير يضج العَوْد منه يَمُنُّهُ أخو الجهد لا يلوى على من تعذرا
ويتساءل المرء ما الذي دعاء إلى تغيير طريقه عن الحارث الغساني وهو الوسيط له عند ملك الروم؟!! ويذكر أنه مرَّ ببعلبك فأنكرته مثلما أنكره أهلها وابن جريج في حمص:
لقد أنكرتني بعلبك وأهلها ولابن جريج في قرى حمص أنكرا
إن توجه امرئ القيس إلى قيصر ثابت من خلال هذه القصيدة الموثقة، ولم يكن ادعاء. وتراه مصمماً على رحلته مقيماً العذر لنفسه بقوله لو أراد غزو بني أسد بقبائل من حمير لفعل: وهو الذي ألجأهم إلى وادي (جو ناعط) باليمامة؛ كما يفهم من القصيدة:
فدع ذا وسلِّ الهمَّ عنك بجسرةٍ ذمول إذا صام النهار وهجرا
عليها فتى لم تحمل الأرض مثله أبرَّ بميثاقٍ وأوفى وأصبرا
هو المنزل الأُلاَّف من جو ناعطٍ بني أسدٍ حزناً من الأرض أوعرا
ولو شاء كان الغزو من أرض حميرٍ ولكنه عمداً إلى الروم أنفرا
وتظهر القصيدة أن الشاعر عمرو بن قميئة الشيخ المجرب لم يصدق أن امرأ القيس سيبر بميثاقه، ولم يتيقن من هذا إلا حين أدرك أن الأميال تفصله عن دياره؛ فما كان منه إلا أن بكى غربة الوطن والأهل. وقد وجد حتفه يمشي بين يديه؛ بل إنه يسير إليه بأقدامه. وأحس بهذا يوم رأى (الدرب) أمامه. والدرب – على ما يراه الدكتور عبد الحفيظ السطلي في لقاء معه – ممر مرصوف بالحجارة يصل ما بين بلاد الشام والروم لا تؤثر فيه عوامل الطبيعة؛ ليكون العبور عليه ميسراً للمشاة والخيل صيفاً وشتاءً (22)
¥