تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

عقدت الدهشة لسان عمرو، وضاق ذرعاً بما يحس به من فراق الأهل والخوف من المجهول فلم يتمالك من البكاء. أما شاعرنا فقد طفق يهدئ من روع الرجل، ويمنيه بالأماني حينما يعود ملكاً وسيداً في قومه:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه وأيقن أنَّا لاحقان بقيصرا

فقلت له: لا تبك عينك إنما نحاول مُلكاً أو نموت فنعذرا

وإني زعيم إن رجعت مُملَّكاً بسيرٍ ترى منه الفُرانق أزورا

ويؤرخ لنا ما لاقاه في طريقه من إعراض الأصحاب، وقد ازدوجت آلام الغربة. فكلما توقع من إنسان حسن الصحبة ورجا رفقته بدأ منه الإنكار وعدم الرضى. كما يحصي لنا عدد الليالي التي قضاها بعد مغادرته أراضي الجزيرة (خلف منطقة الحساء):

إذا نحن سرنا خمس عشرة ليلةً وراء الحساء من مدافِعِ قيصرا

إذا قلت: هذا صاحب قدْ رضيته وقرَّت به العينانِ بُدِّلتُ آخرا

كذلك جدِّي ما أصاحب صاحباً من الناس إلا خانني وتغيَّرا

ويعترف الشاعر بأنه خاض حروباً مع أشخاص غرباء في مواضع من حلب (تادف وقُذاران). وكان انتصاره في حربه هذه تذكرة بأمجاد آبائه من قبل؛ ولعلها تخفف من حرقة غربته كما تخفف من آلامه لتنكب الأصدقاء:

ألا رُبَّ يوم صالح قد شهدته بتأذف ذات التل من فوق طرطرا

ولا مثل يوم في قُذاران ظلتهُ كأني وأصحابي على قرن أعفرا

وتنقطع أخبار عمرو بن قميئة الذي قيل فيه: "بعض شعر امرئ القيس لعمرو بن قميئة وليس ذلك بشيء" (23). وقد تكون وفاته حدثت إبان هذه الظروف فمات في غربته دون هدف فلقبته العرب بعمرو الضائع (24).

إذا وقع أمر الله فليس لأمره دافع، فامرؤ القيس نفسه توفي في طريقه إلى قيصر دون أن يصل إلى غايته. فالقدر أبى عليه أن يحقق رغبته فنكبه بأبيه وبأصدقائه وأخيراً بنفسه. ولنا من قصيدة رواها المفضل الضبي دليل على ذلك (25):

ألا أبلغ بني حجر بن عمرو وأبلغ ذلك الحيَّ الحريدا

بأني قد بقيت بقاء نفسٍ ولم أخلق سلاماً أو حديدا

فلو أني هلكت بدار قومي لقلت: الموت حق لا خلودا

ولكني هلكت بأرض قوم بعيد من دياركم بعيدا

أُعالج مُلك قيصر كل يوم وأجدر بالمنية أن تعودا

بأرض الروم لا نسبٌ قريب ولا شافِ فيُسند أو يعودا

فلو أني نسيت هذا الحزن القاتل على شبابه، وهذا الإحساس الممض بالموت بعيداً عن ديار وطنه لا يمكن أن أنسى هذه العبارة "أُعالج ملك قيصر كل يوم .. " فهو ما يزال يجهد للوصول إلى ملك الروم وهيهات أن يتحقق له ما يريد "وأجدر بالمنية أن تعودا".

مات الشاعر غريباً قرب أنقرة بأرض الروم؛ وكأن هذا المكان خلق لدفن الغرباء عن أوطانهم قبل أن يدركوا غاياتهم (26):

أجارتنا إن المزار قريب وإني مقيم ما أقام عسيبُ

أجارتنا إنَّا غريبان ههنا وكل غريب للغريب نسيبُ

لا يغير هذان البيتان – وهما من زيادات أبي سهل – حقيقة نهاية حياة شاعرنا المبدع.

يتبع

ـ[زهرة متفائلة]ــــــــ[23 - 10 - 2009, 11:58 م]ـ

تابع هذه الدراسة

انتهت رحلته قرب أنقرة، واغترب غربته الأبدية في قبره، وهي أصعب من الغربة عن الأهل، دفن إلى جنب تلك المرأة (27) وفيه يقول القائل – وقد نسب إلى الشاعر – (28):

ربْ طعنة مثعنجرهْ وجفنة متحيرهْ

وقصيدة محبرهْ تبقى غداً بنقرهْ

هل انتهى الأمر عند هذه النقطة؟ بالطبع لا. فموت الفجاءة دهم شاعرنا وقد نكبه الدهر بالجدري والجرب، ولكن من أراد أن يميته بالحلة المسمومة لم ينه رحلته على هذه الشاكلة بل جعلها رحلة ممتعة، فنسج له قصة حب مع ابنة القيصر. وقيل: إن الملك الرومي استعظم فعل امرئ القيس الدخيل الذي قدم طالباً عونه ومدده. صار القيصر المتهتك فجأة شريفاً أبياً تندفع الحمية إلى رأسه حين تناهى إلى مسامعه ذلك النبأ (29).

ولم ينته السخف عند هذا الخبر بل أدخل السمَّار امرأ القيس إلى الحمام مع القيصر. وكان الشاعر قد رآه (أقلف) فذكر ذلك في شعره (30): [/

COLOR]

إني حلفت يميناً غير كاذبة أنك أقلف إلا ما جلا القمرُ

إذا طعنت به مالت عمامته كما تجمع تحت الفلكة الوبر

لعمري كيف يدخل الملك مع امرئ القيس عارياً وتثور حميته عليه في الوقت نفسه حينما أحب ابنته؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير