تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ـ[السراج]ــــــــ[04 - 12 - 2009, 10:39 ص]ـ

فتى كان عذب الروح لا من غضاضة=ولكن كبرا أن يقال له كبرُ

من جمال الاستدراك وروعة التفسير والتعليل بهذا الحرف اللطيف ما بعده، نجده هنا برّاقاً يوضح صفة أردنا أن نبيّنها فيما سبق من بيت شعري – أدرجناه قاصدين - ..

فالبيت السابق الذي ذكرنا أن شاعرنا وفّق في اختيار (من بينهم) حين خرّ شهيداً فما اختياره هذا نابعاً عن عشوائية بل عن معرفة ودراية بصديقه الشهيد الذي كان تواضعه يشعّ نورا فكان قائدا للجيش لكنه كان خُلُقه التواضع.

وهنا يعيد تشكيل فكرته بموادٍ – كلماتٍ – أكثر إيحاء وقرباً للفكرة، فبدأ بوصفه المعتاد الذي صّدر به أربعة أبيات في هذه ا لقصيدة الملحمة (فتىً) ونثرنا سابقاً تأكيد ذلك. بدأ بيته بفتى ليزيل عنا كبره ووصفه بأنه قائد لجيش الخليفة كي لا يتبادر إلى أذهاننا بعظمته.

ويسوق كناية العرب عن التواضع وخفة الروح والابتسام والترحاب، في لفظتي (عذب الروح) التي بدورها أضافت نسقاً موسيقيا عذبا وأكمل هذا النسق الرائع بما بعده من استدراك جميل، فرغم ما بها من شدّة هذه الكلمة (غضاضة) إلا أنها أضافت حسا موسيقيا مكتملا لما قبلها .. وهذا التواضع ليس نقصاً أو ذلّة أو عيباً في القائد الذي اختاره الخليفة المعتصم لقيادة جيشه، إزالة للتوهم، وإضاءةً للعقول بمسارب الأفكار الجميلة التي يشعّ بها إلينا مصباح أبي تمام.

وفي الشطر الثاني يذكر شاعرنا سبب تواضعه وتلاطفه فيقول: إنه أكبر من أن يتواضع وإنه كبير على أن يقول الناس به تكبر.

ـ[السراج]ــــــــ[06 - 12 - 2009, 10:43 ص]ـ

سأعود لبيتٍ سابق لهذا ..

مضى طاهر الأثواب لم تبق روضة=غداة ثوى إلا اشتهت أنها قبرُ

يالجمال الشعر حين يكونُ عذبا، وما أرقى معاني هذا الشاعر تماثلاً لانتقائه ما يلائم دُرر المعاني من دُرر الكلمات ونفيس الحروف والعبارات.

يُشعرك بقول أبي دٌلف بعد سماعه للقصيدة، يُشعرك أنك تقول كما قال أبي دُلف!

هيا نقرأ البيت – النادر – معاً ..

مضى طاهر الأثواب ..

يتناغم شاعرنا ويكثّف - هنا في النص – بديع الكناية العربية، فهو لا يطابق بين صفات القائد وما توارثه العرب؛ إنما هو يُعكس صفات القائد على كنايات العرب وكأنه هو أصل الكناية.

مضى – مات مستشهدا - طاهر الأثواب كناية عن تقوى وورع لم يُدنس ثوبه إثم، ومن كانت تلك صفته، وهي صفة عُليا، حُقّ أن يُكرّم وأن يكون اسمه خالدا، لكن متى؟ فهو لم تمرّ ساعات على موته وها هي كلّ روضه تطلب وترغب بل وتشتهي (في حسّ راقي من أبي تمام الذي أضاف نكهته الخيالية المعهودة على البيت حتى يبدو المشهد أكثر جمالاً بل أقول أكثر واقعية، وحتى يبدو المشهد تشخيصياً من جانب الروضة، سأعود لها). تشتهي أن تكون قبراً لهذا الرفات!

لم تبقَ روضة ..

لم يفد العموم فحسب، إنما نفى التخلف فكل الرياض بلا استثناء تمنت قبرا له ..

وقد زيّن عمود شعره ووضع وسط لآلئه الجميلة لؤلؤة أخرى ففي اختياره لفظة (روضة) من الجمال ما ينتشي ويبعث بالرياح أن تسري في هدوء نغمات أخرى تذكرك بالقرى الجميلة العالية، فهي ما ارتفع وعلا من الأرض وكان أخضرا، فهي أجمل البقاع. (تسابق أماكن الجمال لاحتواء جسد هذا الطاهر).

ثم في ..

إلا اشتهت أنها قبرُ ..

اشتهتْ: للذيذ ما طاب وعذب الشراب، يُطلقها الشاعر هنا انتقاءً واستعارةً لصفات الإنسان في اختيار الأجمل وطلب ما يرغب من محسوسات مادية، ونحن نقولها في الغالب لشيء غير مدرك أو قلْ بعيد عنا في حينه. لكن شاعرنا هنا جعل الروضة أنثى / امرأة في اشتهائها. لكن هذه الروضة تشتهي أن تضم بين جنبات تُربتها الغالية العالية جسد محمد الطوسي بعدما (سمعتْ) بأخبار شجاعته وكرمه ..

أنها قبرُ:

ما يدلّ على شيئين، أحدهما ما ذكرناه أنها تكون قبرا لهذا القائد. والآخر أنها تمنتْ (كل روضة) ذلك الحين أن تكون قبراً بغض النظر عن من توفى ففيه من التكريم لكل ميت بعدما (رأت) أن من بينهم (طاهر الأثواب) فتشجعت تطلب وتشتهي أن تكون قبراً.

ألا ترى الآن كيف جعلتُ الروضة مرة (سمعتْ) ومرة (رأت ْ) محاكياً الشاعر العباسي الذي اختصر كل ذلك في لفظة عجيبة لا تقال أبدا إلا للبشر وأي بشر: للأنثى هنا – اشتهتْ.

ـ[السراج]ــــــــ[10 - 12 - 2009, 08:52 م]ـ

عليك سلام الله وقفاً فإنني=رأيت الكريم الحر ليس له عمرُ

سنضيء هنا لفظتين أرادهما الشاعر أن تكونا لخلود الأحاديث والصفات وكلّ ما يعلق بمن استشهد ونال درجة عُليا.

فهذا البيت هو ختم به أبو تمام عقد اللآلئ وأحسنَ سبكهِ مِسكا يبلُغ أول العقد، وما كان ذلك إلا عن عاطفة تُحرّك فيه قارورة الألوان فتمتزج مع تحرُكِها صنوفٌ شتّى من مُنبهات الحسّ والجمال (الألوان) فتستحيل الكلمات فراشاتٍ، تجدها مشغولة – هُنا – بمشهدٍ يُبكيها فأتت أسراباً يلفّها الحزن كان لها جلبابٌ فكلّها تلفّعت بوشاح السواد، وكلّها آثرتْ حركتُها على نفسها ونأت عن كلّ زهرة، فاليوم يومُ حُزنها.

ختم أبو تمام بالدعاء أبياته وخصّ تقدّم لفظة (عليك) تخصيصاً لهذا القائد الفذ، لكن ما أحببتُ أن أثيره لفظة وقفاً التي أدرجها شاعرنا ليكون هذا الدعاء علامة بارزة ترفرف إلى ما شاء الله فأراده وقفاً ثابتاً، وأي سلام هذا الذي أراده الشاعر، هو سلام الله.

ثم علّل بأسلوب سلس حكيم سبب وجود هذه اللفظة المتماسكة في وسط الشطر الأول فكلّ كريم يخلُد بأفعاله التي تكون له أحاديثٌ تطير كلما هبّت الريح وأينما توجّهت الطيور، ومن الأمثلة ما تزخر به سِير الأعلام وأحاديث السمّار وروايات المحكين علاوة عن من لا يغادر الأفكار بكرمه مثلاً ثابتاً (حاتم).

وهذا يضيفُ عمراً للمرء يبدأ حين وفاته عمراً فكأنه نوراً بكرمه أو كما قال ليس له عُمر وهذا ما يفسّر كلماته اللآلئ اللاتي جئْنَ في فرح فنراه يُخاطب الطوسي بلفظة (عليك) إصراراً على فكرته.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير