تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الضباب الذي بدأ يتصاعد من البحر ويغلف القارب الصغير. الشعاع الذي تسرب مثل الشلال، أعطى لمعانا خاصا للأتربة التي نثرها جون موبي مثلما نثر حبات اللؤلؤ في فضاء أوسع.

-هذه الأتربة التي وطئها مونسنيور أو نام عليها للمرة الأخيرة. إنها ترابه الذي أحبه وانتهى إليه باستكانة. هكذا أوصاني أن أزرع تربة رفاته مثل الذي يزرع حبوبا في فضاء واسع، ستنبت يوما خيرا وطيبة.» ()

قد لا ينتبه القارئ إلى الأسلوب الحالم الذي عرضت به "لوحات" الأحداث تطرزها أحاسيس إنسانية نبيلة انتهت بنبوءة خطيرة " ستنبت يوما خيرا وطيبة " فكانت هذه البداية أول لقاء بين القارئ وشخصية " مونسنيور"، غير أنه سيلتفت حتما إلى "لوحات أخرى" يتم فيها لقاءه الأول "بشخصية الأمير" وكأنها لوحات لعالم يحتضر، تقاطرت عليه اللعنات من حدب وصوب، فأحالته إلى عالم قفر خراب، يتوجب إزالته من الوجود: «1832 عام الجراد الأصفر هكذا يسميه العارفون ورجال البلاد والصالحون وزوار الزاوية القادرية الآتون من بعيد. منذ الصباح تبدأ فلول الجراد الأولى تسقط على سهل أغريس، مشكلة مظلة سوداء على الحقول والمزارع. حتى حوافي واد الحمام الساخن تصير صفراء من كثرة الجراد العالق بالأطراف وشجيرات الديس والمارمان التي تكسو أطراف الوادي. حتى الرياح الجنوبية التي هبت ليلة البارحة لم تجلب معها إلا مزيدا من الرمال والأتربة وأسرابا لا تحد من الجراد.» () إنها الأجواء التي تمت فيها البيعة الأولى .. جراد أصفر، ورياح جنوبية، وجوع، وفقر طال البشر والدواب على حد سواء. فجعل البيعة والخروج إليها مشقة أُرغم الكثيرون على تكبد أتعابها.

قد يتساءل القارئ إن كان اختيار أجواء البيعة من قبيل صنيع "الخيال الروائي" الذي يتحرر فيه الكاتب من كل قيد أو شرط، فيختار فيه ما يناسب المادة السردية التي يعرضها، كما صنع في مشهد ذر الرماد، فإنه يجوز للقارئ -على الأقل- أن يسأل عن "الداعي الفني" لاختيار إطار عرض مشاهد البيعة. خاصة وأن "البيعة" قد اختار لها القائمون عليها-تاريخيا- في سهل "أغريس" مُشاكلَة بيعة الرسول ? تحت الشجرة، ليوافقوا في ذلك بركة الصنيع الأول، وليمتد العهد إلى المبايعين الأوائل إيمانا وثباتا وصبرا.

إن للبيعة في الوجدان العربي هذا الطيف الديني/التاريخي المفعم بالهيبة والإيمان، فلا يجوز فنيا التغاضي عنه واستبداله بإطار أقل ما يقال عنه أنه إطار يجعل البيعة ضربا الفعل الكارثي الذي يضاف إلى فعل الجراد ورياح الجنوب الجافة. أما إذا كان الروائي يكتب لغير العرب جاز له أن يفعل ذلك لغياب أطياف البيعة من تراثهم وثقافتهم. فهم لا يكترثون للجراد أو غيره، وقد يرون فيه مأساوية تزيِّن المتخيل السردي.

قد كان يهون شأن الجراد والرياح الجافة لو اقتصر عليها الروائي، واعتبرناها مما تأتي به الأيام والسنون، غير أنه يتمادى ليجعل البيعة تأتي على خلفية الشنق، والكواسر، والكلاب الجائعة: «تمايل الجسد الثقيل قليلا قبل أن يستقر على وضع ثابت شيئا فشيئا. كانت السماء قد امتلأت بالغربان والجوارح القادمة من الصحراء بعد أن سحقها الجوع. تعالت وقوقاتها الآتية من بعيد ثم بدأت تحوم في شكل حلقات ودوائر فوق رأس الجثة التي همدت واستقرت بشكل عمودي. عندما بدأت الكواسر أولى هجوماتها. كان صوت حوافر الخيل قد ملأ فجأة المكان، فهربت الكواسر مؤقتا لتحلق بعيدا عن ساحة الزيتونة والمسجد الصغير. قبل أن تعود للهجوم مرة أخرى.» () إنك لا تكاد تغمض عينيك قليلا حتى يتبادر إلى خلدك مشهدا من مشاهد أفلام "الوستيرن" التي تفننت هوليوود في تصويرها وعرضها.

إنها جثة "قاضي أرزيو" الذي نفِّذ فيه حكم الإعدام شنقا ظلما في حضرة زوجته، الأمر الذي دعا "الأمير" إلى مراجعة والده "محي الدين" والاعتراض عليه وهو ينظر إلى المعلق في الشجرة: «رفع عبد القادر لحاف برنسه ومسح عينيه

-تبكي يا بني؟

لا، أمسح الغبار عن وجهي. كان الله يرحمه. أستاذي ومرجعي في الفقه. خسارة كبيرة. ألم يكن هناك حل شرعي أقل سوءا من الإعدام.؟»

ثم تستمر خلفية البيعة في أجواء يصنع غرابتها التناقض الكامن فيها:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير