تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

في الذاكرة الرسمية.

أما العتبة الثانية "مسالك أبواب الحديد" فقد ينصرف فيها الذهن إلى المعاناة التي كابدها الأمير في سجن "لمبواز" أسيرا، وفي سجن المنفى غريبا. غير أن الذين أقبلوا على الرواية لم يكترثوا كثيرا للعتبة الفرعية بقدر ما توقفوا عند الأولى، ولما باشروا القراءة، كان الأمير غائبا عن الساحة السردية التي احتلتها شخصية "مونسنيور ديبوش" " Monseigneur Antoine Dupuch " الذي كان البطل الفعلي للرواية ومحركها منذ البدء، وكل ما روي عن الأمير كان من قبيل تأثيث جهود " مونسنيور ديبوش " لفك مسالك أبواب الحديد.

4 - 1 - مشاهد البدايات:

يرى كثير من النقاد أن البداية في أي عمل روائي هي الداعي إلى قراءة الرواية والإيغال فيها، أو هي الصارفة عنها. بل يزعم البعض أن في البداية تتكشَّف أهداف الرواية، وتظهر أولوياتها جلية للعيان، فيعلم القارئ لمن كُتبت؟ ولماذا كُتبت؟ أو على أقل تقدير يدرك المنحى الذي ستسير فيه الأحداث، والوجهة التي ستأخذها. لأنه: «لا يمكن للنص الروائي أن يوجد بدون بداية، إنها مكون بنائي. بيد أن ما تعمل عليه في العمق ضبط مختصر الرواية، أي محاولة تقديمها ملخصة بدقة وشمولية، ففي أكثر من نص يكفينا التعامل مع البداية لمعرفة مجريات الأحداث ولواحقها ... وبمجرد الإتيان على قراءتها يتم طرح السؤال: وماذا بعد؟ ما الذي سيكون؟» () وكأن الرواية تقوم بتكييف المتلقي ليضبط استعداداته على موجات معينة حتى يألف اللغة، ويتعرف على العوالم التي يدخلها بهدوء أو بعنف، مخترقا أجواء غريبة الأمكنة والأزمنة، أو مألوفة الحدود والنعوت. فالبداية تلقي بالقارئ في عالمها المتخيل، فيشكِّل معها جهازه المفاهيمي الذي يحاول أن يتعرف من خلاله على الأشياء والمعاني. ()

إن رواية "كتاب الأمير" توقفنا على شخصين غريبين ينفضان "رماد" جثمان " مونسنيور ديبوش " في عرض البحر أمام الجزائر العاصمة التي مات بعيدا عنها، ولكنه أصر في وصيته أن يعود رماده إليها بعد موته، تعبيرا عن حبه لها، وكأنه يرفض الانتماء إلا إليها ولو رمادا يُذرُّ في خضرة بحرها فجرا.

لقد كانت الطقوس التي حملتها البداية غريبة عن القارئ العربي، الذي لم يتعود مثل هذا الفعل في ثقافته وتراثه، ولم يألف هذا الحب الذي ينكر فيه الواحد انتماءه إلى وطنه الأول ليهدي لأرض اغتصبها رماد جثمانه. لم يكن هذا المذرور رمادا واحدا من عامة الناس، وإنما كان أسقفا للجزائر رافق عمليات الاحتلال الأولى، وفاوض الأمير في الأسرى والمعهود. وعودته على هذا النحو لا يمكن أن تُقرأ على أنها نزوة من نزوات بعضهم، وإنما يجب أن تنصرف إلى رمزية ستكون لها دلالتها في عمق النص وأحداثه.

قد تسمح هذه التقنية، التي موقعت الحكي في سنة 28 جويلية 1864. باعتباره بداية للرواية، آلية الارتداد إلى الخلف على سبيل الذكرى، فيسهل استعراض الأحداث على الهيئة التي يريدها الراوي بسهولة ويسر. فلا يلتزم الراوي بشرط الكرونولوجيا الزمنية وتوالي الأحداث، بل يكفيه استدعاء الأطراف التي يريد تحريكها كلما عنَّ له ذلك، أو وجد له داعي الاستدعاء خدمة لغرض من الأغراض السردية. فإذا كانت شخصية "مونسنيور ديبوش" بثقلها الإكليريكي تختار أن تنتهي رمادا في بحر الجزائر – وقد كان بإمكانه أن يدفن جسدا في العاصمة المحتلة، وفي فناء "كتشاوة" الذي حوله إلى كنيسة-تحضر في البداية على هذا النحو لتخلق ضربا من التعاطف مع القارئ الذي يعاني وطأة الاستعمار ثقافيا من خلال الرواية على الأقل، فإن حضورها يفرض على الروائي أن يوهم القارئ: «بالصدق، (وبأنه) يسرد ما يوازي العالم الخارجي ... ومن ثم فالإقناع عبر المسيرة السردية همُّ وهدف الروائي .... » () فقد استطاع الروائي أن يرفع إلى القارئ جوا مشحونا بالهيبة، لا يشاكله الجو الجنائزي المعهود، وكأننا أمام طقس لابد له أن يتم على هذا النحو نظرا للعلاقة التي تربط الشخصية بالأرض وأهلها. فالقارئ يتابع المراسيم غير الرسمية في صمت لا يعكِّر صفوه إلا صوت المجداف في الماء، وسط ضباب بدأت الشمس تُذهِّب أطرافه: «بهدوء كبير، حرك الصياد من جديد المجدافين ليدفن الزورق فجأة في عمق البياض إلي خلفته الأشعة الشمسية الأولى التي خرجت من وراء الجبل الذي يطوِّق المدينة. كانت مفرطة النور، متوغلة في

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير