تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

شأنه من ضبط الثغور وتثقيفها فرتب الحامية ... ثم ارتحل إلى الحضرة.» ()

فهذا الخلل التاريخي في الرواية يخلخل الأساس الذي بنيت عليه نفسية "الأمير" فلا مجال إذن للتعاطف مع قاضي أرزيو الذي تحالف مع العدو وحرضه على احتلال الميناء، ذلك المنفذ البحري الذي كان يستخدمه الأمير في جلب البارود الأسود والأسلحة من إسبانيا وغيرها. فدعوة القاضي لاحتلال الميناء لا يمكن تفسيرها إلا بالخيانة العظمى التي تسعى إلى اجتثاث الدولة الناشئة. فبعد: «انصراف الأمير من القتال بلغه أن أهل أرزيو ركنوا إلى الفرنسيين بدسائس قاضيهم المعتقل في معسكر وأقاربه وأنهم أحضروا شرذمة من عسكر وهران لحمايتهم. ثم دس إليه رجل منها اسمه طوبال، أنه يخرج كل يوم مع ضابط المعسكر في طلب الصيد. وعين له المحل الذي يبتغونه فيه. فركب الأمير في الحال وخلف جموع الغرابة ومن يليهم على حصار وهران. وبعث الأسرى إلى معسكر. وأغزى السير إلى أرزيو، وكن في القرب من الموضع الذي عينه طوبال. فلما خرج الضباط وأتباعهم في معية طوبال، فاجأهم الأمير بخيله وحال بينهم وبين البلد. فدافعوا عن أنفسهم، واتهموا طوبال في أمرهم. فعدا عليه أحدهم بسيفه وقتله، ثم أظهروا علامة التسليم وألقوا السلاح. فأمنهم الأمير وجعلهم تحت الحفظ، وتقدم إلى البلد ففرت حاميتها إلى المراكب وأقلعت بهم إلى وهران. ودخل الأمير، فقبض على من توجهت إليه التهمة في مواطأة حاكم وهران في هذه القضية، وأصلح شأن البلدة، وثقف أطرافها، وأنزل فيها حامية كافية، وانفتل راجعا إلى الحضرة. فأنزل الضباط في دار الضيافة، وأمر بإكرامهم والقيام بشؤونهم. وعقد للقاضي أحمد بن الطاهر البطيوي مجلسا خاصا من العلماء فأمعنوا النظر في أمره وقامت البينة عليه فحكم المجلس بقتله، فسُمِلت عيناه وقطعت يداه، ورجلاه، ووضع في حفرة، في ساحة الصراية إلى أن مات بعد ثلاثة أيام.» ()

إن المشهد الذي قدمه الروائي أقل فظاعة مما روته كتب التاريخ عن نهاية القاضي، وأشد مأساوية، إلا أنه حكم الشريعة فيمن خالط العدو وحرضه على المسلمين وهو القاضي الذي يعرف شرع الله ? وحكمه في أمثاله. فلو صدرت الخيانة من غيره جهلا أو ضعفا أو طمعا أو خوفا، لكان للحكم شأن آخر. فقد لجأ العلماء إلى ذلك الصنيع تشهيرا بأمر القاضي ليكون رادعا لكل من تسول له نفسه التعامل مع العدو. وهي الحادثة التي تكشف عن صلابة شخصية الأمير وشدته في الحق، عكس ما حاول الروائي بيانه في سرده. إننا من خلال نص التاريخ نشهد أميرا يكرم عدوه الأسير، ويعاقب مواطنه الخائن العالم، عقوبة شديدة الوقع في النفوس. لا يقرر حكمها من تلقاء نفسه، وإنما يعقد لها مجلسا من العلماء.

5 - 2 - التذبذب في العقيدة:

ترك الأمير عبد القادر الجزائري في المخيال الثقافي والشعبي صورة يصعب تجاوزها حتى على سبيل الخلق الفني. ذلك لأن شخصيته توزعت على محاور ثلاث في كل تراثه الفكري والأدبي والسيري. يمكن تفصيلها على النحو التالي:

-العالم: الزاهد/التصوف.

-المجاهد: السيف/القلم.

-الإنسان: الشاعر/المحب.

وفي كل سفر من الأسفار الثلاثة يجد الدارس فيضا من العطاء غزير المنابع متعدد المشارب. فالعالم، الزاهد، المتصوف، اغترف من منابع العلوم الشرعية ما مكَّنه من مجالس الإفتاء والتدريس، وإدارة المناظرات، والاطلاع على الفنون والفلسفات. وفتح له التصوف باب الإتباع وتهذيب النفس، وتثقيف الجوارح، وتأكيد الإيمان. ومكَّنه المجاهد من ركوب الأهوال، ومناطحة الأقران، والخروج في سرايا المغازي، باذلا النفس والنفيس. فإذا انقلب إلى أهله كان فارس قلم وطرس، يرود مجاهل المعرفة، ويرد حياضها. أما إذا خلا بنفسه فشاعر رقيق الحواشي، لين العبارات، دقيق التلمس لحقائق الأشياء والمعاني.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير