تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إنها الصورة التي لا يمكن اختصارها أكثر من ذلك. إلا أن الروائي يقدم هذه الشخصية في محاور أخرى تنافيها وتستدبرها. وكأنه يريد أن يخرج للناس "أميرا" آخر لا يعرفونه، فلا هو منهم ولا هم منه في شيء. إنه المتذبذب في عقيدته، لا يزال في حيرة من أمر دينه. أهو على حق أم باطل؟ ففي لوحة أخرجها الروائي يقدم لنا فيها الأمير على الهيئة التالية مخاطبا "مونسنيور ديبوش": «بدأت أقرأ كتابكم الإنجيل. وفي فترة إقامتك بجانبي أتمنى أن تسمح لي بمساءلتك عن بعض القضايا الغامضة. لم تتح لي الحروب والتنقلات المستمرة إلا قراءة شذرات صغيرة منها هنا وهناك. ولكن هذه المرة أنا مصمم على قراءته كاملا وفهمه إن أمكن. سادتنا القدماء فعلوا مثل هذا الأمر دون أن يختل إيمانهم.

-الإيمان في القلب، وما في القلب لا يعلمه إلا الله. أنا مستعد من كل قلبي لأسئلتك.

-متيقن أن قلبك لن يتوقف عن فعل الخير. حدثني كأخ ولا تقلق من أخطائي. فالنية الطيبة هي سيدة السؤال والمقصد.

- لك كل المحبة التي تقربنا من بعض حتى ولو اختلفنا. لتستقر روحانا داخل نفس الحقيقة الإلهية الكبيرة.» ()

قد يبدو هذا التمهيد طبيعيا أول الأمر، فنحن أمام سجين يجد فسحة من الوقت لقراءة ما يقع تحت يده من الكتب. وقد يكون الأمير في حاجة لأن يعرف عن الإنجيل والمسيحية ما يمكِّنه باعتباره عالما من مناظرة الأساقفة والرهبان، وهم يقبلون عليه لمعاينة هذا المنشق الذي تجرأ على محاربة فرنسا. وأن الأمر مثلما يقول هو نفسه، ليس فيه ما يضر إيمان صاحبه. غير أن الروائي يمضي بنا سريعا إلى موقف آخر لا نجد له تفسيرا سوى أننا إزاء شخصية ليس لها من يقين تركن إليه، وأنها قد تنقلب على عقبيها مرتدة عن دينها. فهو يقول على لسان "منسنيور ديبوش":

«-لا أدري من أين جاءني كل هذا. ولكني أحبك أكثر مما يمكن أن تتصور. لك في قلبي مكان واسع. وفي ديني متسع لا يفنى ولا يموت.

- روحك أنت غالية علي، ومستعد أن أمنح دمي لإنقاذها امنحني من الوقت قليلا، لأتعرف على دينك، وإن اقتنعت به سرت نحوه.

اندهش المنسنيور ديبوش من كلام الأمير، فقد شعر وكأن شيئا كان يعتمل في داخله. منذ أن فاوضه في السجناء تأكد له أن هذا الرجل لو امتلكته الكنيسة في صفها لتحول إلى قوة كبيرة لمواجهة الخيبات والانتكاسات.

طلب من منسنيور أن يساعده للحصول على كتب متخصصة في الدين. وإلى كاهن معرب، يشرح له تفاصيل المسيحية. في صفائها الأول.

- وجود كاهن بجانبي يجعلني لا أرجئ الأسئلة الحيوية.

- سأتركه معك الوقت الذي تشتهي فهو رهن تصرفك.

في تلك اللحظة رأى مونسنيور ديبوش الأمير وهو يركب صحبته القطار المتجه إلى روما ليتلقى التعميد من يدي البابا الأكبر. وبعطر شرقي تصعب مقاومته.» ()

إن البطل الحقيقي في هذه الرواية هو هذا الأسقف الذي أدرك منذ الوهلة الأولى أنه لا يمكن تحويل أرض الجزائر إلى أرض مسيحية فقط، بل أكثر من ذلك تحويل المنافح عن ترابها ودينها إلى مسيحي يزيد الكنيسة قوة وسلطة. أما الأمير فرجل يطلب كتبا وكاهنا معربا ليزداد قربا من المسيحية التي يعرف عنها من كتابه "القرآن الكريم" حقيقتها وحقيقة كتبها ورجالاتها عبر تاريخها الطويل. إن "العالم" "الزاهد" يختفي ليحل محله رجل ضعيف اليقين، فقير المعرفة، ربما كانت ثورته مجرد مغامرة لم يدرس عواقبها، أو ألقي فيها إلقاء، لم يجد إلا الاستسلام للتحلل منها.

ثم ينهي الروائي اللقاء بين الرجلين على نحو يزيد من غربة القارئ عن أميره الذي يعرفه قائلا على لسانه:

«-قل لكل من تلقاه من القديسين النصارى، أن يدعوا لي لكي يغمرني الله بنوره ويفك كربتي وأسري.

-سأفعل.

عانقه طويلا، ثم خرج مونسنيور وقلبه ممتلئ بنور غريب ظل يشع في أعماقه.» ()

لقد عهدنا في تراثنا الفكري والتاريخي أن العلماء المجاهدين إذا دخلوا الأسر، جعلوا من فضائه خلوة للتأمل والعبادة، وإذا أسعفهم حظ وجود الكتاب، جعلوه فضاء علم ودراسة وتأليف، غير أن الأمر هنا مختلف، وكأن الأمير يريد أن ينال عطف سجانه، متملقا، متزلفا، مبديا آيات الخضوع والاستسلام المعنوي.

5 - 3 - الجاهل بتراثه الديني:

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير