تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

الكتاب الكبار في العالم هم دائما كتبوا ذواتهم. فحينما نقرأ فلوبار "السيدة بوفاري" .. أجد بان هذه الرواية لو لم تكن مرتبطة بحياة فلوبار ذاتيا ما اعتقد أنها كانت تكون ناجحة .. الذات الواعية هي الذات التي تستطيع أن تكتب بصدق العالم. فعندما نحرج عن ذواتنا نكتب سوسيولوجية، أو نكتب تاريخ، أونكتب شيء له طابع عقلاني. أما الأدب فعقلانيته أو تاريخيته في الذاتية، والأدب بشكل عام هي كتابة تاريخ العاطفة. فكل الآداب هي كتابة تاريخ العاطفة، والعاطفة هي ترمومتر التاريخ وترمومتر السوسيولوجية ... » ()

ربما يخدع القارئ سريعا حين يسترسل وراء ضجيج الكلمات التي يلقي بها الروائي بين يدي محاورته التي تكتفي بطرح السؤال وتقبل الرد من غير نظر أو مراجعة. هناك شاهد في قوله يعزوه إلى أحد كبار الكتاب، فحواه أن العالم يبدأ من عتبة البيت. إنها حقيقة لا يمكن لعاقل نكرانها. بل العالم يبدأ من البيت، بل العالم يبدأ من الذات .. ومن أي نقطة تكون الانطلاقة فإن السهم سيتجه دوما إلى الخارج ليجسد علاقة الذات بالعالم. غير أن "التلبيس" الذي يقع فيه القارئ يبدأ من "أنا أحاول أن أكتب ذاتي بالجمع" فيوقفنا على لفظ لا وجود له في الثقافة العربية بالمعنى الغربي " au pluriel" فالذات في هذه الوضعية تستشعر امتداداتها الاجتماعية والحضارية، وما يكون منها هو شرط الانصياع إلى واقعها الاجتماعي والحضاري. وكل الكتاب يعانون هذا الانصياع، ويجسدونه في مؤلفاتهم. بل هو مادة النضال التي من أجلها يكتبون. ولا مشاحة في أن نعتقد معه أن" التاريخ هو الأفراد " وأن" والأدب أيضا تصنعه الذات بالأساس" غير أن التاريخ الفعلي هو تاريخ ذات تنطلق إلى الخارج لتغير وتبدل، فالتاريخ تغيير وتبديل مستمر لمحتويات الأيام والعصور. والأدب تصنعه الذات التي تتجه إلى الحياة لإغنائها بالجديد، لا أن يكون التاريخ هَوَسا وأن يكون الأدب محكوما "بفتنة التخريب". بل الأدب والتاريخ معا–كما يقول الروائي نفسه- من صنع الذات الواعية. تلك "الذات التي تستطيع أن تكتب بصدق العالم." غير أن للروائي رأيا آخر في معنى "الوعي" و"الصدق" يختلفان عما هو معروف عند العامة من الناس. فهو يقول عنهما: «لكن ما أنا على وعي به، أنني على صدق وعلى باب مفتوح دون حرج ودون رقيب مع نفسي، ومع المحيط الذي أعيش فيه. في هذه اللحظات تجيء السياسة، ويجيء الاجتماع، ويجيء الجسد، وتجيء اللغة بالعربية أو الفرنسية، كما تشاء ودون قيد، فأنسكب في اللغة، أو تنسكب فيّ، وأبدأ التشكيل كمن يرسم لوحة يضيع فيها البدء بالنهاية. إذاً الاندماج في الكتابة أو اندماج الكتابة فيّ هو حالة لا أستطيع أن أصفها.»

فهو وعي وصدق يقعان خارج دائرة الوصف. ثم يضيف: «وأصدقك القول أنني مرّات في ليلة كاملة لا أكتب إلا جملة واحدة وأشرب قنينتي نبيذ أو أكثر، وأسمع كلّ أشكال الموسيقى .. مرّات أكتب وأنا بحاجة إلى الاستماع إلى أغنية عتيقة ولا يكون معي الشريط، ورغم ذلك أسمعها بدون صوت في عالم الاستحضار، وهذا حدث معي حين كتبت في بلدان أوربية وأمريكية، واستمعت إلى أمّ كلثوم وفيروز والريميتي (مغنية شعبية جزائرية). هذا الاستحضار هو قوّتنا. واسمحي لي أن أقول لك هي نبوءتنا نبوءة الكاتب التي تجعله يخترق العادي والزمن بمفهومه الفيزيائي والمسافات بمفهومها الجغرافي الغيابي، ليخلق عالماً كونياً من رموز ووهم، كي يحاصر هذا العالم ويحاصر نفسه، وكي يقرأ العالم و نفسه بكلّ فداحة الغموض.».

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير