تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

وإذا خرجنا من هذا الهوس، أصبحت ميكانيكية ومخططاً لها. عندها تضيع شعرية الرواية ومفاجأة الرواية، فالرواية التي لا تفاجئك بشيء، ليست برواية. كما الكاتب الذي كان يتوقع بأنه سيكتب شيئاً إلا أنه يكتب شيئاً آخر، والقارئ ينتظر شيئاً، ويجد شيئاً آخر هذه شعرية الرواية، وهذه هي الأشياء التي تجعل من النص خالداً ويبتعد به عن التنطيح.»

إننا حين نقرأ مثل هذه الاعترافات، ندرك أخيرا لماذا يقول التجريبيون أن الرواية تكتب ذاتها، وأن الشخصيات فيها تتمرد عن مبدعيها، وأنها تصنع لنفسها مصائر ما كانت لها من قبل، وأن السارد لا يعرف عن روايته شيئا .. كانت تلك هي ادعاءات الحداثة السردية التي طلع علينا بها "روب غرييه" و"نتالي ساروت" و"فليب سولير" وغيرهم .. ورددتها أقلام النقد العربي التي تكتفي عادة بالترديد الساذج لما تتلقاه من مائدة الآخر. فإذا كان "الهوس" هو الكاتب الفعلي للرواية، فإن التشضي، واللاأدبية من خصائصه الأولى. لأننا نعلم يقينا أن التعريف الصحيح للفن لن يستبعد الوعي والعقل من لغته، ولن يسلِّم نشاطا إنسانيا عرفته البشرية منذ فجر التاريخ إلى ضرب من الهوس، تلتقي فيه كافة النداءات التي لا يعرف المهووس كيفية ضبطها.

فإذا كنا لا نعرف "الهَوَس" مصطلحا أدبيا، فإننا نعرفه –على الأقل- لفظا عربيا قديما، يقول عنه "ابن منظور": «هَوَس الناس هَوَسًا، وقعوا في اختلاط وفساد» () ويقول عنه "محمد بن أبي بكر الرازي": «الهَوَس، طرف من الجنون» () وليس غريبا بعد هذا أن يكون "الهوس" سبيلا من سبل قتل الرواية، حين يفرغها من وظيفتها التي تطمح –أبد الدهر- إليها، ويسلمها إلى عبث "التلطيخ" الذي يخرج أضغان النفس سافرة في كل حرف من حروفها، تتجاوز به حالة السوية و"الصحو"، لأن الروائي الذي يقوده "الهوس" لا يكتب إلا في حالة "سكر" ليته كان سكرا صوفيا يبعث على الشطحات، وإنما هو "سكر" عربدة. فهو يصرح مرة أخرى قائلا: «أنا عاشق للنبيذ وأكتب دائما برفقة قنينة نبيذ، ولعل طقوس النبيذ الجزائري تمنحني دفقاً خاصاً للذهاب إلى أعماقي للتخلص في لحظة الكتابة من كلّ مخفر مهما كان شكله ومحتواه سياسياً أو دينياً أو أخلاقيا. هذا الوسيط يجعلني أعي جسدي قطرة قطرة في مثل هذه الحالة أكون كالمتصوّف أو درويش لا أفرّق مابين التمر وبين الجمر.»

كان "سنتيانا" الفيلسوف الجمالي يقول دوما أن "الفن نشاط واع بهدفه" وكأن الحركة الفنية على اختلاف مدارسها، ودرجات تجريبيتها، لم تتجرأ يوما لأن تدخل علم الفن وهي لا تفرق بين التمرة والجمرة. صحيح قد يختلط عليها الأمر في غمرة النشوة، ولكنها تعي دوما أن الفن التزام بطريقة أو بأخرى، وأن الرسالة التي يبثها الفن ليست ملكا للفنان وحده، وإنما هي ميراث الآخرين الذين ينتظرون منه أن يعرفهم بالحياة ومعانيها. تلك هي المسؤولية التي يستشعرها كل فنان، حتى أولئك الذين لا يعترفون بالآخر، ويزعمون أنهم يكتبون لأنفسهم، ينتابهم شعور بالمسؤولية يعيد لهم صحوهم الذي يخلدون من ورائه أعمالهم به. غير أن الروائي الجزائري الذي يغالب الصحو بالنبيذ، ليس له من هم سوى الغوص في داخليته بعيدا كل مرة. وكأن مطلب الفن في هذا الغوص، وأن الحياة كلها طُمرت في هذه الذات المعذبة، وأن ما سيخرجه الوارد منها هو الفن كله. إنه الادعاء الذي يبيح لصاحبه ركوب الهوس، أو أن يركبه الهوس في كل سطر يكتبه، وفي كل مشهد يصوره. وتلك حقيقة لم تفت محاوريه، ف"جازية روابحي" تسأله قائلة:

- «من يقرأ "صهيل الجسد" أو "وحشة اليمامة" و"الرعشة" ... يشعر أنه يقٍرأ كتابا مفتوحا على خصوصيات أمين الزاوي .. فهل تحتاج الثقافة الأدبية إلى ثقافة خصوصية؟ وهل يمكن أن يخلو النص الروائي من خصوصية الكاتب؟

-الزاوي أمين:

"حمزة توق " أحد الكتاب الكبار يقول: العالم يبدأ من عتبة بيتي. وأنا أعتقد أن الكتابة تبدأ من الذات الكتابة التي ليست لها علاقة بالذات، وليست لها بهجة ومتعة الذات هي كتابة مصطنعة وخارجية أنا أحاول أن أكتب ذاتي بالجمع. يعني كيف أرى الأصدقاء من خلالي. كيف أرى العالم. لأن في نهاية الأمر التاريخ هو الأفراد. لا يوجد تاريخ من العدم فيصنعه الأفراد. والأدب أيضا تصنعه الذات بالأساس.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير