ـ[د. عمر خلوف]ــــــــ[26 - 03 - 2009, 07:58 م]ـ
إنّهما في واقع الأمر وزنان منفصلان، متمايزان، خلَطَ بينهما العروضيون دون الشعراء، على الرغم من شعورهم الأكيد بالاختلاف والتباين. فقد نبَّهَ معظمُهم إلى أن تحوّل (فاعلن) إلى (فعْلن) هو مما يُخالف أصولَ القواعد الخليلية، وأنّ ذلك حالةٌ شاذّةٌ يختصُّ بِها هذا البحر دونَ سواه!!
بل لقد حكَمَ معظمهم بشذوذ هذا البحر سالِمَ التفاعيل، وصحّته معتلاًّ!! ونبّهَ آخرون إلى أنه لا يستعمل إلاّ مخبوناً أو مقطوعاً كما رأينا.
يقول العروضي: "إنّ هذا الوزنَ قد لحِقَهُ فسادٌ في نفس بنائه، أوجَبَ [على الخليل] ردّه، وذلكَ أنه يجيءُ في حشْوِ أبياته (فعْلن) ساكنَ العين، ومثل هذا لا يقع إلاّ في الضرب ... فأما في حشو البيت فغير جائز، وما عُلِمَ في شيءٍ من أشعار العرب"، مخالفًا بذلك سائرَ أنواع الشعر كما يقول، ومشيرًا إلى أنه "لو كانَ يجيءُ على بناءٍ تامّ، فيكون كلّه (فاعلن فاعلن)، أو يجيء [على] (فعِلن) " لَما خالَفَ أنواعَ الشعر الأخرى "ولكنه قلَّ ما يجيء منه بيت إلاّ وأنتَ تجدُ فيه (فعْلن) ". ولعلَّ في إطلاقِهِ اسمَ (الغريب) عليه إشارة واضحةٌ إلى استغرابه من هذه المخالفة.
كما أن في إشارات المعرّي العروضية، ما يؤكد أنه كان يشعر بانفصال الوزنين، وإن لم يقل ذلك صراحة. يقول: "وقد ينقلب [المتقارب] إلى وزنٍ آخر [دون تسميته] لَمْ تستعمله العرب، مثل قوله:
أنتِ ياقوتةٌ عندنا في الرّضا=غيرُ مَقْلِيَّةٍ عندنا في الغضَبْ
يقول: "فهذا وزنٌ مهملٌ لَم تستعمله العرب". ولكنه عندما أشار إلى الخبب قال: "الوزنُ الذي يُسمّى ركض الخيل، وزنٌ ركيك"، "ضَعُفَ وهجَرَتْهُ الفحول في الجاهلية والإسلام، وربما تكلّفه بعض الشعراء كما قال:
أوَقفْتَ على طَلَلٍ طرَباً=فشَجاكَ وأحزَنَكَ الطّلَلُ
ويقول الزنجاني: "وأنشدوا في تمامِهِ:
يا بَني عامِرٍ قدْ تجمّعْتُمُ=ثمَّ لمْ تدفعوا [الضَّيْمَ] إذْ قمْتُمُ
ولعلّه مصنوع؛ فإنّ العرب لم تستعمله تامّاً، بل جميعُ أجزائه يجيءُ إمّا على (فعِلن) مخبوناً ... وإمّا على (فعْلن) مقطوعاً ... أو يجيءُ بعضُ أجزائه مخبوناً، وبعضُها مقطوعاً"!!
وباستقرائنا للكثير مما كُتبَ على هذين الوزنين -قديماً وحديثاً- تبيّنَ لنا بما لا يدعُ مجالاً للشكّ، أنّهما شكلان منفصلان، لا يرتبط أحدهما بالآخر إلاّ برباطٍ كاذب؛ هو اشتراكهما بالوحدة الإيقاعية (فعِلن):
* حيث يُمثل الشكل الأول كلَّ ما كُتِبَ على (فعْلن) وبديلها (فعِلن)، وتركنا له اسمَ الخبب.
* ويمثل الشكل الثاني كلّ ما كُتِبَ على (فاعلن) وجوازها (فعِلن)، وتركْنا له اسمَ المتدارك.
ـ[د. عمر خلوف]ــــــــ[26 - 03 - 2009, 08:01 م]ـ
ولعلّ ابن الفرخان هو أول عروضيٍّ من القدماء يفصل الخبب عن المتدارك، فيجعله جنساً قائماً بذاته (يقوم على فعِلن)، ويجعل المتداركَ جنساً قائماً بذاته أيضاً (يقوم على فاعلن).
يقول ابن الفرخان: "وقولهم إنّ (فاعلن) هو أصل (الخبب)؛ إنْ عنَوْا به أنّ (فاعلن) أفضل من (فعِلن) في الوزن فليس كذلك، وإن عنَوْا أن المتألِّفَ من (فاعلن) أكثرُ استعمالاً من المتألِّفِ من (فعِلن) فلا كذلك أيضاً، وإنْ عنَوْا أنّ (فعِلن) لا يُستعملُ أصْلاً على انفراده، بل زحافاً (لفاعلن) ومعَه [فهذا] أيضاً غير مقبول".
ويرفض القرطاجني (-684هـ) أن يكون للمتدارك وجودٌ أصلاً، لِما فيه من التنافر والثقل، بينما أقرّ الخببَ بحراً قائماً بذاته، مُجَهِّلاً مَنْ جعله صورةً عن المتدارك وزعَمَ أن الخبْنَ التُزِمَ في جميع أجزائه، مقترحاً تقطيعَه على (مُتَفاعِلَتُن ///ه///ه) مرتين في كل شطر، مع جواز سكون التاء أو اللام أوكليهما معاً، لتصيرَ إلى (مفعولاتن). ومبيّنًا "فسادَ رأيِ مَنْ جعَلَ شطْرَ الخبب مركّباً من (فاعلن) أربع مرات، ثمّ زعَمَ أن (الخبْنَ) التُزِمَ في جميع أجزائه وجاز فيها القطع، [و] لا يُلتَزَمُ خَبْنٌ، ولا يجوزُ قطعٌ، إلاّ في عروضٍ أو ضرب".
ـ[د. عمر خلوف]ــــــــ[26 - 03 - 2009, 08:03 م]ـ
ولم يجد عمل ابن الفرخان ولا اقتراح القرطاجني صدىً أو استجابةً ممن جاءَ بعدهما من العروضيين، حتى جاء العصر الحديث، وازداد اهتمام الشعراء بهذين البحرين، فبدأت أصوات العروضيين والشعراء تنادي مرّةً أخرى بفصل الخبب عن المتدارك.
حيث دعا د. إبراهيم أنيس إلى أن تُقْصَرَ " أحوالُ المتدارك على ذلك الوزن الشائع، الذي رُوِيت له أمثلة قليلة، ولكنها صحيحة النسبة، كقصيدة الحصري وأبيات شوقي"، وهو يعني بذلك الخبب طبعاً.
وأشار د. محمد النويهي إلى أن المتدارك " ينقسم إلى قسمين عظيمين، يكاد كلّ منهما أن يكون بحراً مستقلاًّ".
كما أشار د. كمال أبو ديب إلى أن " ثمّةَ تشكُّلاً إيقاعيّاً في الشعر العربي قد تتألف الوحدة الإيقاعية فيه من نواتين من النوع (فا) [يعني: فا فا = فعْلن]، وقد تكون جميع وحداته من هذا الشكل، أو يكون عدد منها من الشكل (///ه). وبهذه الطريقة نُميّز هذا التشكّل عن المتدارك [الذي على فاعلن] ".
¥