ويعلل لذلك الاختصار بقوله: "فلو جاز أن يُجعَل ما يشارك غيره في جزئه بابا على حدة، لنقصان أجزائه، أو لتقدم بعضها على بعض، أو للزحاف، لزم ذلك في كل مربع ومثلث ومثنى ومزاحف". وهو بهذا القول يوجه نقدا للخليل الذي جعل السريع والمجتث والمنسرح والمقتضب بحورا منفصلة على حدة.
وحسب منهجه هذا زاد من الطويل نسقا مسدسا لم يذكره الخليل، ومثل له بقوله:
قفا نبك من ذكر الشبابِ ... ومن ذكر سلمى والرباب
ومن المديد نسقا مربعا، ذكره الزجّاج وعده من الرمل، وشاهده:
بؤس للحرب التي ... غادرت قومي سُدى
ومن البسيط نسقا مربعا، قوله:
دارٌ عَفاها القِدَمْ ... بين البِلى والعَدَمْ
ثم جعل من المخلع عروضا مطوية، شاهدها:
يا من يلوم فتى عاشقا ... لُمتَ فلومُكَ لي أعشقُ
ثم قال: ولم يجئ طيه عن العرب، وكان في إمكانه أن يعده من البسيط؛ لأن " كل ما كان مؤلفا من مستفعلن فاعلن من البسيط" عنده.
وزاد من الرجز موحدا، وكان الزجاج ذكره قبله وعده مشطورا منهوكا، نحو قوله:
طيف ألمْ
بعد الغنمْ
بذي سلمْ
ويرى الجوهري "أن الزحاف كل تغيير يلحق الجزء من الأجزاء السبعة من زيادة أو نقصان أو تسكين أو تقديم حرف أو تأخير". فهو قد ربط التغيير بالأجزاء ولم يفرق فيها بين عروض وحشو وضرب، وجعله مسئولا عن توليد أعاريض وضروب جديدة في كل بحر، قائلا في إشارة تحمل غمزا لعمل الخليل: "وذكر الخليل أن جميع أعاريض الشعر وضروبه أربع وثلاثون عروضا وثلاثة وستون ضربا. ولا يُحتاج في هذا الباب إلى معرفة تفصيل الأعاريض والضروب، وترتيب الأبيات؛ لأن الزحاف لا يختص بها دون الحشو والصدر، فهي مشغلة عظيمة قليلة الفائدة".
كان عمل الجوهري، إذن، أكبر مراجعة قام بها عروضي لنظام الخليل، هذب فيها كثيرا من تفصيلاته المعقدة من غير أن يخل بعدد أنساقه التي ذكرها الخليل بل لعله زاد عليها، الأمر الذي جعل تأثيره على علم العروض العربي يطغى على كل المحاولات التي سبقته، والتي لم تتجاوز عند غيره استدراك بحر من هنا أو ضرب من هناك. وصدق ابن رشيق في قوله: "ثم ألف الناس بعده [أي بعد الخليل]، واختلفوا على مقادير استنباطاتهم، حتى وصل الأمر إلى أبي نصر إسماعيل بن حماد الجوهري، فبين الأشياء واوضحها في اختصار. وإلى مذهبه يذهب حذاق أهل الوقت، وأرباب الصناعة".
كان هذا في أوائل القرن الخامس الهجري، ولو تتبعنا أثر مذهبه في القرون العشرة التالية، لوجدناه أعظم من ذي قبل.
ـ[سليمان أبو ستة]ــــــــ[24 - 04 - 2009, 04:27 م]ـ
وأعتقد أن ما يؤكد صدق قول ابن رشيق بأن الجوهري "يذهب إلى مذهبه حذاق أهل الوقت , وأرباب الصناعة" ما وجدناه عند أبي العلاء المعري (ت 449 هـ) في إحدى لزومياته حيث يقول:
غدا الناس كلهم في أذى ... فزُجّ حياتك فيمن يُزجّْ
ولا تطلبن اللباب الصريح ... فقد سيط عالمنا وامتزجْ
ألم تر أن طويل القريـ ... ـض من متقاربه والهزجْ
فإشارته في البيت الأخير توحي بأن مذهب الجوهري قد عرف بين الناس، وكان المعري قد رحل سنة 399 هـ إلى بغداد ومكث فيها سنة وسبعة أشهر وقيل إنه "طلب أن تعرض عليه الكتب التي في خزائنها، فأدخل إليها وجعل لا يقرأ عليه كتاب إلا حفظ جميع ما فيه".
وقد أفادنا محقق كتاب "عروض الورقة" الدكتور محمد العلمي عن وجود إشارات لبعض آراء الجوهري في كتب العروضيين اللاحقين كالشنتريني في القسطاس والدماميني في الغامزة، كما رأيت إشادة به في كتاب "إحياء العروض" للتنوخي حيث قال: "والإمام الجوهري يرى ما يشبه ذلك مما يدلنا على أن من أئمة السلف من كانوا يفكرون في تشابه الأوزان وفي إمكان تمازجها وتدامجها، وأن منهم من كان كالزجاج لا يحجر واسعا، ولا يرد مستحدثا نافعا".