تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقال: هيهات، هيهات، أنا أشقى من ذلك، فأعد علي.

وما زال يخضع ويتضرع، حتى أعدته، فصعق صعقة أشد من الأولى، حتى ظننت نفسه

قد فاظت، فلما أفاق، رددت عليه الدنانير.

وقلت له: خذ دنانيرك، وانصرف عني، فقد قضيت حاجتك، وبلغت وطراً مما أردته،

ولست أحب أن أشارك في دمك.

فقال: لا حاجة لي في الدنانير، وهذه مثلها لك، وأخرج ثلثمائة دينار أخرى.

وقال: أعد علي الصوت مرة أخرى، وحلال لك دمي.

فقلت: لا والله، إلا على شرط.

قلت: تقيم عندي، وتتحرم بطعامي وتشرب أقداحاً من النبيذ تشد قلبك، وتسكن بعض

ما بك، وتحدثني بقصتك.

فقال: أفعل.

فأخذت الدنانير، ودعوت بطعام، فأصاب منه، وبالنبيذ، فشرب أقداحاً، وغنيته بشعر

غيره في معناه، وهو يشرب ويبكي.

ثم قال: الشرط، أعزك الله، فغنيته صوته، فجعل يبكي أحر بكاء، وينتحب.

فلما رأيت ما به قد خف عما كان يلحقه، والنبيذ قد شد من قوته، كررت عليه صوته

مراراً، ثم قلت له: حدثني حديثك.

فقال: أنا رجل من أهل المدينة، خرجت يوماً متنزهاً في ظاهرها، وقد سال العقيق، في

فتية وأقران، فبصرنا بفتيات قد خرجن لمثل ما خرجنا نحن له، فجلسن قريباً منا.

ونظرت بينهن إلى فتاة كأنها قضيب بان قد طله الندى، تنظر بعينين، ما ارتد طرفهما إلا

بنفس من يلاحظهما، فأطلنا وأطلن، حتى تفرق الناس.

وانصرفنا، وقد أبقت بقلبي جرحاً بطيئاً اندماله، فسرت إلى منزلي وأنا وقيذ.

وخرجت من غد إلى العقيق، وليس فيه أحد، فلم أر لها أثراً، ثم جعلت أتتبعها في طرق

المدينة وأسواقها، فكأن الأرض ابتلعتها، وسقمت، حتى يئس مني أهلي.

فأعلمت زوجة أبي بذلك، فقالت: لا بأس عليك، هذه أيام الربيع قد أقبلت، وهي سنة

خصب، والساعة يأتي المطر، فتخرج وأخرج معك، فإن النسوة سيجئن، فإذا رأيتها

أتبعتها، حتى أعرف موضعها، ثم أصل بينكما، وأسعى لك في تزويجها.

قال: فكأن نفسي اطمأنت، ورجعت، وجاء المطر، وسال العقيق، وخرجت مع إخواني

إليه، وزوجة أبي معنا، فجلسنا مجلسنا الأول، فما كنا والنسوة إلا كفرسي رهان، فأومأت

إلى زوجة أبي، فجلست قريباً منها.

وأقبلت على إخواني، فقلت لهم: أحسن والله القائل، إذ يقول:

رمتني بسهم أقصد القلب وانثنت = وقد غادرت جرحاً به وندوبا

فاقبلت على صويحباتها، وقالت: أحسن والله القائل، وأحسن من أجابه حيث يقول:

بنا مثل ما تشكو فصبراً لعلّنا = نرى فرجاً يشفي السقام قريبا

قال: فأمسكت عن الجواب، خوفاً أن يظهر مني ما يفضحني وإياها، وانصرفنا.

وتبعتها زوجة أبي، حتى عرفت بيتها، وصارت إلي، وأخذت بيدي، ومضينا إليها،

وتزاورنا، وتلاقينا على حال مراقبة ومخالسة.

حتى ظهر ما بيني وبينها، فحجبها أهلها، وتشدد عليها أبوها، فلم أقدر عليها.

فشكوت إلى أبي شدة ما نالني، وشدة ما ألقى، وسألته خطبتها.

فمضيت أنا وأبي ومشيخة قومي إلى أبيها، فخطبوها، فقال: لو كان بدأ بهذا من قبل أن

يشهرها، لأسعفناه بحاجته وبما ألتمس، لكنه قد فضحها، فلم أكن لأحقق قول الناس فيها

بتزويجه إياها، فانصرفت على يأس منها ومن نفسي، قال معبد: فسألته أن ينزل بقربي،

فأجابني، وصارت بيننا عشرة.

ثم جلس جعفر بن يحيى يوماً للشرب، فأتيته، فكان أول صوت غنيته بشعر الفتى، فطرب

عليه طرباً شديداً، وقال: ويحك لمن هذا الصوت؟ فحدثته فأمر بإحضار الفتى، فأحضر

في وقته، فاستعاده الحديث، فأعاده.

فقال له: هي في ذمتي، حتى أزوجك بها فطابت نفسي ونفس الفتى، وأقام معنا ليلتنا

حتى أصبح.

وغدا جعفر إلى الرشيد، فحدثه الحديث، فعجب منه، وأمر بإحضارنا جميعاً، وأمر بأن

أغنيه الصوت، فغنيته، وشرب عليه، وسمع حديث الفتى.

فأمر من وقته، بأن يكتب إلى عامل الحجاز، باشخاص الرجل وابنته، وسائر أهله إلى حضرته.

فلم تمض إلا مسافة الطريق، حتى أحضر، فأمر الرشيد بإحضاره إليه، فأوصل، وخطب

إليه الجارية للفتى، فأجابه، فزوجه إياها، وحمل الرشيد إليه ألف دينار مهرها، وألف دينار

لجهازها، وألف دينار لنفقته، في طريقه، وأمر للفتى بألفي دينار.

وكان المديني بعد ذلك من جملة ندمائه.

ـ[رسالة الغفران]ــــــــ[31 - 01 - 2008, 08:51 ص]ـ

ليلى الأخيليّة والحجّاج

قال الهيثم بن عدي دخلت ليلى بنت عبد الله الأخيلية على الحجّاج وعنده وجوه النّاس

وأشرافهم. فاستأذنته في الإنشاد، فأذن لها، فأنشدته قصيدةً مدحته بها. فلمّا فرغت من

إنشادها، قال الحجّاج لجلسائه: أتدرون من هذه الجّارية؟ قالوا: لا نعلم، أصلح الله الأمير،

ولكنّا لم نر امرأةً أكمل منها كمالاً، ولا أجمل منها جمالاً، ولا أطلق لساناً، ولا أبين بياناً، فمن

هي؟ قال: هذه هي ليلى الأخيلية صاحبة توبة بن الحمير الذي يقول فيها:

نأتك بليلى دارها لا تزورها = وشطّ نواها واستمرّ مريرهاثمّ قال لها: يا ليلى ما الذي رابه من سفورك حيث يقول:

وكنت إذا ما زرت ليلى تبرقت = فقد رابني منها الغداة سفورهاقالت: أصلح الله الأمير، لم يرني قط إلا متبرقعةً وكان أرسل إليّ رسولاً أنّه يلمّ بنا، ففطن

الحيّ لرسوله، فأعدّوا له وكمنوا، وفطنت لذلك، فلم يلبث أن جاء، فألقيت، برقعي

وسفرت له، فلمّا رأى ذلك أنكره وعرف الشّرّ، فلم يزد أن سلّم عليّ وسأل عن حالي

وانصرف راجعاً. فقال الحجّاج لها: لله درّك فهل كانت بينكما ريبة؟ قالت: لا، والذي

أسأله أن يصلحك إلى أن قال مرةً قولاً ظننت أنّه خضع لبعض الأمر، فقلت له مسرعةً هذا

الشعر. وأنشأت وهي تقول:

وذي حاجةٍ قلنا له لا تبح بها =فليس إليها ما حييت سبيل

لنا صاحبٌ لا ينبغي أن نخونه = وأنت لأخرى صاحبٌ وخليل

فلا، والذي أسأله صلاحك، ما كلّمني بشيءٍ بعدها استربته حتّى فرّق الدّهر بيني وبينه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير