أيها الملك: إن الرأي هو الذي خطر لك والمصلحة هي التي رأيتها أنت، وقتل هذه الجارية في
هذا الوقت أولى وهو عين الصواب لأنه أحق من أن يقال إن امرأة قهرت رأي الملك وحنثته
في يمينه لأجل شهوة النفس، ثم قال أيها الملك: إن صورتها مرحومة وحمل الملك معها،
وهي أولى بالستر، ولا أرى في قتلها أستر ولا أهون عليها من الغرق، فقال له الملك: نعم ما
رأيت خذها غرقها، فأخذها الوزير ثم خرج بها ليلاً إلى بحر الأردن ومعه ضوء ورجال
وأعوان، فتحيل إلى أن طرح شيئاً في البحر أوهم من كان معه أنها الجارية، ثم إنه أخفاها
عنده، فلما أصبح جاء إلى الملك، فأخبره أنه غرقها، فشكره على ما فعل، ثم إن الوزير
ناول الملك حقاً مختوماً وقال أيها الملك إني نظرت مولدي، فرأيت أجلي قد دنا على ما
يقتضيه حساب حكماء الفرس في النجوم، وإن لي أولاداً وعندي مال قد ادخرته من
نعمتك، فخذه إذا أنا مت إن رأيت، وهذا الحق فيه جوهر اسأل الملك أن يقسمه بين
أولادي بالسوية فإنه إرثي الذي قد ورثته من أبي وليس عندي شيء ما اكتسبته منه إلا
هذا الجوهر، فقال له الملك يطول الرب في عمرك ومالك لك ولأولادك سواء كنت حياً
أوميتاً، فألح عليه الوزير أن يجعل الحق عنده وديعة فأخذه الملك وأودعه عنده في صندوق،
ثم مضت أشهر الجارية، فوضعت ولداً ذكراً جميلاً حسن الخلقة مثل فلقة القمر، فلاحظ
الوزير جانب الأدب في تسميته، فرأى أنه إن اخترع له اسماً وسماه به، وظهر لوالده بعد
ذلك، فيكون قد أساء الأدب، وإن هو تركه بلا اسم لم يتهيأ له ذلك، فسماه شاه بور
ومعنى شاه بور بالفارسية ابن ملك، فإن شاه ملك، وبور ابن، ولغتهم مبنية على تأخير
المتقدم وتقديم المتأخر، وهذه تسمية ليس فيها مؤاخذة، ولم يزل الوزير يلاطف الجارية والولد
إلى أن بلغ الولد حد التعليم، فعلمه كل ما يصلح لأولاد الملوك من الخط والحكمة
والفروسية، وهو يوهم أنه مملوك له اسمه شاه بور، إلى أن راهق البلوغ هذا كله وأردشير
ليس له ولد، وقد طعن في السن وأقعده الهرم، فمرض وأشرف على الموت، فقال للوزير: أيها
الوزير: قد هرم جسمي وضعفت قوتي وإني أرى أني ميت لا محالة، وهذا الملك يأخذه من
بعدي من قضي له به. فقال الوزير: لو شاء الله أن يكون للملك ولد، وكان قد ولي بعده
الملك، ثم ذكره بأمر بنت ملك بحر الأردن وبحملها، فقال الملك: لقد ندمت على تغريقها.
ولوكنت أبقيتها حتى تضع، فلعل حملها يكون ذكراً، فلما شاهد الوزير من الملك الرضا،
قال: أيها الملك إنها عندي حية ولقد ولدت ووضعت ولداً ذكراً من أحسن الغلمان خلقاً
وخلقاً، فقال الملك: أحق ما تقول. فأقسم الوزير أن نعم، ثم قال: أيها الملك إنه في الولد
روحانية تشهد بأبوة الأب وفي الوالد روحانية تشهد ببنوة الابن، لا يكاد ذلك ينخرم أبداً،
وإنني آتي بهذا الغلام بين عشرين غلاماً في سنه وهيئته ولباسه، وكلهم ذوو أباء معروفين
خلا هو. وإني أعطي كل واحد منهم صولجاناً وكرة وآمرهم أن يلعبوا بين يديك في مجلسك
هذا، ويتأمل الملك صورهم، وخلقتهم وشمائلهم، فكل من مالت إليه نفسه وروحانيته فهو
هو، فقال الملك: نعم التدبير الذي قلت، فأحضرهم الوزير على هذه الصورة ولعبوا بين يدي
الملك، فكان الصبي منهم إذا ضرب الكرة وقربت من مجلس الملك تمنعه الهيبة أن يتقدم
ليأخذها إلا شاه بور، فإنه كان إذا ضربها، وجاءت عند مرتبة أبيه تقدم، فأخذها ولا
تأخذه الهيبة منه، فلاحظ أردشير ذلك منه مراراً، فقال أيها الغلام ما اسمك. قال: شاه
بور، فقال له: صدقت أنت ابني حقاً، ثم ضمه إليه وقبله بين عينيه، فقال له الوزير: هذا
هو ابنك أيها الملك، ثم أحضر بقية الصبيان ومعهم عدول فأثبت لكل صبي منهم والداً
بحضرة الملك، فتحقق الصدق في ذلك، ثم جاءت الجارية وقد تضاعف حسنها وجمالها،
فقبلت يد الملك، فرضي عنها، فقال الوزير: أيها الملك قد دعت الضرورة في هذا الوقت إلى
إحضار الحق المختوم، فأمر الملك بإحضاره، ثم أخذه الوزير وفك ختمه وفتحه فإذا فيه
ذكر الوزير وأنثياه مقطوعة مصانه فيه من قبل أن يتسلم الجارية من الملك، وأحضر عدولاً
من الحكماء وهم الذين كانوا فعلوا به ذلك، فشهدوا عند الملك بأن هذا الفعل فعلناه به
من قبل أن يتسلم الجارية بليلة واحدة قال: فدهش الملك أردشير وبهت لما أبداه هذا
الوزير من قوة النفس في الخدمة، وشدة مناصحته، فزاد سروره وتضاعف فرحه لصيانة
الجارية وإثبات نسب الولد ولحوقه به، ثم إن الملك عوفي من مرضه الذي كان به وصح
جسمه، ولم يزل يتقلب في نعمه وهو مسرور بابنه إلى أن حضرته الوفاة، ورجع الملك إلى
ابنه شاه بور بعد موت أبيه، وصار ذلك الوزير يخدم ابن الملك أردشير وشاه بور يحفظ
مقامه ويرعى منزلته حتى توفاه الله تعالى، والله تعالى أعلم بالصواب وإليه المرجع والمآب
وحسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم وصلى الله على سيدنا
محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
¥