وشَرُف باللقب بعد ذلك الشاعر الكبير البحتري (206 – 284 هـ) وقد منحه إيَّاه الشاعر الكبير أبو تمام (188 – 231 هـ) والقصة ذكرها أبو الفرج الأصفهاني، فقال: والحديث للبحتري:" قال لي أبو تمام: بلغني أن بني حميد أعطوك مالاً جليلاً فيما مدحتهم به، فأنشدني شيئاً منه، فأنشدته بعض ما قلته فيهم، فقال لي: كم أعطوك؟ فقلت: كذا وكذا، فقال: ظلموك، والله ما وفوك حقك، فلم استكثرت ما دفعوه إليك؟ والله لبيت منها خير مما أخذت، ثم أطرق قليلاً، ثم قال: لعمري لقد استكثرت ذلك، واستكثر ذلك، واستكثر لك لمَّا مات الناس، وذهب الكرام، وغاضت المكارم، فكسدت سوق الأدب، أنت والله يا بني أمير الشعراء غداً بعدي، فقمت فقبلت رأسه ويديه ورجليه، وقلت له: والله لهذا القول أسرُّ إلى قلبي، وأقوى لنفسي مما وصل إلي من القوم" (13).ونستبين من قول أبي تمام " غدًا بعدي" أنه اصطفى اللقب لنفسه، أو أنه مُنح له، قبل أن يمنح شرفه للبحتري من بعده، على أني لم أجد فيما وقعت يدي عليه من مصادر أدبية وتاريخية أحدًا منح إمارة الشعر لأبي تمام.
وقد ذكر الأمير أسامة بن منقذ (ت 584 هـ) أن القاضي أبا يوسف لقبَّ به الأمير أبا الحسن علي بن مقلد (ت 575 هـ) الشهير بسديد الدولة، الذي انتزع قلعة " شيزر" من الفرنج، فقال له ذات يوم في مجلس العلم والأدب:" أنت أمير الشعراء، وشاعر الأمراء" (14).وهو حكم مقبول،حُفظ لصاحبه في المصادر، غير أني أميل إلى أن الحكم يشوبه بعض المبالغة المغلفة بالمجاملة؛ لما يرتجى من حظوة وكرم، علمًا أن هذا المصدر انفراد - حسب علمي - بالقصة.
وبعد أحمد شوقي (1285 - 1351 هـ) جاء أبو الفضل الوليد، إلياس بن عبد الله طعيمة (1303 – 1360 هـ) وهو شاعر من أدباء لبنان في المهجر الأمريكي، فرأى أحقيته بإمارة الشعر بشهادة غير الإنسان، وهي الطيور الجميلة" البلابل" وهو حكم دخيل على ما سبقه، وتفوح منه رائحة "الأنا " يقول في قصيدته التي مطلعها:
حَلمتُ بأنّي في الرياضِ أسيرُ وحَولي وفوقي مزهرٌ ونضيرُ
فأطربني التغريدُ من ألفِ طائرٍ يقولُ لأهلِ الشعر أنتَ أمير
ثم مَنَح الأمير شكيب أرسلان (1286 – 1366 هـ) شرف إمارة الشعر إلى شاعر النيل حافظ إبراهيم (1288 – 1351 هـ) بعد أحمد شوقي في قصيدته التي أرسلها إليه، إذ يقول:
وَرَهطٍ دَعَوني أَن أُجيبَ نِداءَهُم فَلَمّا دَعَوني لَم يَرَوني بِقُعدُدِ
إلى قوله:
فَأَنتَ إِمام النَثرِ غَيرَ مُدافِعٍ وَأَنتَ أَميرُ الشِعرِ مِن بَعدِ أَحمَدِ (15)
وحاز مرتبة اللقب بشارة بن عبدالله بن الخوري المعروف بالأخطل الصغير (1885 - 1968م). إذ اتسم شعره بالأصالة، وقوة السبك والديباجة، وجزالة الأسلوب، وأناقة العبارة، وطرافة الصورة، بالإضافة إلى تنوع الأغراض وتعددها، وطارت شهرته في الأقطار العربية، وكرم في لبنان والقاهرة. وفي حفل تكريمه بقاعة الأونيسكو ببيروت سنة 1382هـ أطلق عليه لقب أمير الشعراء (16).
وكان آخر من لقب بـ" أمير الشعراء" الشاعر المغربي حميد بركي الذي كتب في جميع المجالات، وأبدع أكثر في الشعر حتى لقب بالمتنبي، و فضلت قصيدته "رياح أنفا" على معلقة امرئ القيس، وُصِف في مهرجان الدار البيضاء أنه تفوق على المتنبي في وصف المرأة، و لقب بأمير الشعراء و رد يقول:
فقيل لسان الشعر أنت أميره فقلت أنا سلطان كل مفعل
فلا فرق بيني و بين امرأ القيس أن تكن قصائد ليست بوحي منزل (17)
وعودًا على بدء بعد هذا العرض الطريف لمسيرة اللقب، وتوارثه عبر أجيال الشعراء المقدمين،وصدور بعض أحكامه عن شداة الشعر، وأهل الخطابة واللسن، الذين بلغوا مبلغًا رفيعًا في الحكمة، ومرتقًى عاليًا في البلاغة،ومنزلة سامية في الفصاحة، بعد أن مخضوا الدهر، وحلبوا أشطره، فشوتهم الأحداث حتى نضجوا، وحنكتهم التجارب حتى حصفوا، فصاروا أهلاً للخلوص إلى تلك الأحكام الصائبة، أرى أن لقب " أمير الشعراء" حقٌّ مكتسبٌ لأي شاعر متى ما تمكن من ناصية اللغة،واعتلى صهوة الحرف، وأمسك زمام الكلمة، فبلغ في النظم غايته، وفي التركيب جودته، وفي الشعر نهايته، وتواطأ على شاعريته العارفون، وشهد له به المقدمون، وما ذلك بعزيز على ذوي العزمات الصادقة.
ختامًا: فقد كان الهدف الأسمى من المقال لملمة أشتات الآراء والوِجهات التي يدوك فيها بعض الكتاب في أحقية انفراد أحمد شوقي بهذا اللقب دون غيره بوصفه إرادة شعبية، فهو وإن لم يكن بدعًا من القول، ونوعًا من التملق، وطرفًا من الظن، فإن اتصاف أكثر من شاعر عبر العصور السابقة بهذا اللقب جاء نتاج تجارب، ومخاض عقول، وإفرازات مواقف، عركتها الحياة، وحنكتها الخبرات،مما يلغي فرضية احتفاظ شوقي باللقب له دون غيره،ولذا لم يعد من نوافل القول قولنا أن لقب "أمير الشعراء" صالح لكل زمان ومكان.
بدر بن علي العبد القادر
badrali176***********
(1) انظر: المعجم الكبير، للطبراني (ت 360 هـ): 18/ 99.
(2) انظر: لباب الآداب، الثعالبي (ت 429 هـ): صفحة 130.
(3) زهر الآداب وثمر الألباب، للحصري (ت 453 هـ): صفحة 54.
(4) الرسالة الموضحة في ذكر سرقات المتنبي و ساقط شعره، الحاتمي (ت 388 هـ): صفحة 4.
(5) مسائل الانتقاد،ابن شرف القيرواني (ت 463 هـ): صفحة 3.
(6) أخبار المدينة، أبو زيد النميري (ت 262 هـ):صفحة 176.
(7) بغية الطلب في تاريخ حلب، كما الدين بن أحمد (ت 660 هـ): 8/ 3710.
(8) محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء، أبو القاسم الأصفهاني (ت 502 هـ):2/ 349.
(9) الأغاني، أبو الفرج الأصفهاني (ت 356 هـ): 1/ 340.
(10) انظر: الأغاني:4/ 18.
(11) الأغاني:3/ 13.
(12) الأغاني: 4/ 15.
(13) الأغاني: 5/ 346.
(14) البديع في نقد الشعر، أسامة بن منقذ (ت 584 هـ): صفحة 8.
(15) انظر: مجلة المنار، العدد التاسع عشر، رقم الصفحة 19.
(16) انظر: موسوعة دواوين الشعر العربي على مر العصور، 1/ 143.
(17) انظر: مجلة مدونات مكتوب، العدد العشرون، الأحد 29، نيسان، 2007 م: رقم الصفحة 28.
¥