وقال ابن العربي: إنما بين لله به حال يوسف من حين بلوغه بأنه آتاه العلم، وأتاه العمل بما علم، وخبر الله صادق، ووصفه صحيح، وكلامه حق، فقد عمل يوسف عليه السلام بما علمه الله من تحريم الزنا وتحريم خيانة السيد أو الجار أو الأجنبي في أهله، فما تعرض لامرأة العزيز ولا أناب إلى المراودة بل أدبر عنها وفر منها حكمة خص بها وعملاً بمقتضى ما علمه الله سبحانه، وهذا يطمس وجوه الجهلة من الناس والغفلة من العلماء في نسبتهم إليه ما لا يليق وأقل ما اقتحموا من ذلك أنه هتك السراويل، وهم بالفتك فيما رأوه من تأويل وحاشا لله ما علمت عليه من سوء بل أبرئه مما برأه الله منه. وإنما الذي كان منه الهم وهو فعل القلب، فما لهؤلاء المفسرين لا يكادون يفقهون حديثا، ويقولون: فعل فعل والله إنما قال هم بها ().
بهذا يتضح لنا أن هم يوسف عليه السلام هم خطرات، وهذا لا يقدح في عصمته عليه السلام - كما مر معنا بيانه - بل يزيده رفعة وشرفاً صلى الله عليه وسلم وهذا القول أرجح الأقوال في نظري والله أعلم.
وهو الموفق سبحانه للصواب فإن أصبت فيما رجحته فبتوفيقه وتسديده،وإن كان الأمر على خلاف ما ذكرت فهو الكريم العفو الغفور نسأله الصفح والتجاوز وهو حسبنا ونعم الوكيل.
المبحث الرابع
بيان المراد بالبرهان
تناولنا فيما مضى من مباحث هذا الموضوع بيان الهم وما المراد به في الآية الكريمة، وفي هذا المبحث سنختم الحديث عن الآية بما ختمت به وهو " البرهان" فإن الله ذكر أنه أطلع نبيه يوسف عليه السلام على برهان من عنده كان سببا في عصمته من الوقوع في السوء والفحشاء {لولا أن رأى برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء إنه من عبادنا المخلصين} فما هو ذلك البرهان؟
البرهان في لغة العرب هو الحجة والبيان ().
والبرهان الذي رآه يوسف عليه السلام فترك من أجله مواقعة الخطيئة تناوله أهل التفسير بالبيان () معولين في ذلك على روايات وأخبار إسرائيلية تكلم عليها العلماء كما مر معنا سابقاً - عند قول من قال إن هم يوسف كهم المرأة - وتتلخص الأقوال فيما يلي:
1 – أنه سمع نداء ينهاه عن مواقعة الخطيئة.
وقد ورد ذلك منسوباً إلى طائفة من السلف عليهم رحمة الله. والروايات في ذلك كثيرة منها:
ما نقل عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال:نودي:يا يوسف أتزني فتكون كالطير وقع ريشه فذهب يطير فلا ريش له (). وعن قتادة قال: نودي يوسف فقيل أنت مكتوب في الأنبياء وتعمل عمل السفهاء ().
2 – أنه رأى صورة يعقوب عليهما السلام يتوعده.
قال ابن عباس: رأى صورة أو تمثال وجه يعقوب عاضاً على أصبعه فخرجت شهوته من أنامله ().
وعن سعيد بن جبير قال: رأى صورة فيها وجه يعقوب عاضاً على أصابعه فدفع في صدره فخرجت شهوته من أنامله فكل ولد يعقوب ولد له اثنا عشر رجلاً إلا يوسف فإنه نقص بتلك الشهوة ولم يولد له غير أحد عشر ().
3 – انه رأى عقوبة الزنا مكتوبة.
قال محمد بن كعب القرظي (): البرهان الذي رأى يوسف ثلاث آيات من كتاب الله {إن عليكم لحافظين} () وقوله {وما تكون في شأن} () وقوله {أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت} () وقيل وقوله {ولا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة وساء سبيلا} ()
4 - أنه رأى خيال سيده ().
والصواب إن شاء الله أن يقال: إن الله تعالى ذكر في كتابه أن نبي الله يوسف عليه السلام قد رآى برهاناً من ربه، وكان ذلك البرهان سببا في صرف السوء والفحشاء عنه، ولم يذكر في الآية الكريمة ما هو ذلك البرهان، ولم ينقل فيه خبر عن الصادق عليه الصلاة والسلام، وكلما قيل فيه مما تناوله العلماء بالنقل عن السلف رحمهم الله هو من قبيل الروايات الإسرائيلية وهي مصدر لا بد في التعامل معها من استحضار الأقسام الثلاثة السابق ذكرها في تمهيد هذا البحث.
والآية الكريمة ذكرت البرهان فجائز أن يكون واحداً مما قيل،وجائز أن يكون غيرها، ولا يقطع بواحد منها ولا من غيرها،لأن ما نقل عن السلف من روايات في بيان البرهان هو من القسم الذي لا نعلم صدقه ولا نعلم كذبه, والذي يجب القطع به أن يوسف عليه السلام رأى برهانا من ربه حال بينه وبين ما هم به كما نصت عليه الآية وكفى. والله أعلم
الخاتمة
في ختام هذا البحث الذي تناولت فيه بيان معنى قوله تعالى {ولقد همت به وهم بها ... } الآية أحب أن ألخص ما توصلت إليه بما يلي:
1 - أن هذه الآية الكريمة قد كثر كلام الناس فيها وتعددت أقوالهم لأن ظاهرها قد يفهم منه ما ينافي عصمة نبي الله يوسف عليه السلام.
2 – الإشكال الوارد على الآية ناتج عن إضافة الهم إلي يوسف عليه السلام.
3 – أن الهم ينقسم إلى قسمين: هم قصد وذلك هو هم امرأة العزيز، وهم خطرات وذلك هم يوسف عليه السلام.
4 – للروايات والأخبار الإسرائيلية دور بارز في تشويه كثير من الحقائق فلا بد من معرفة أنواعها وتمييز المقبول من المردود منها.
هذا وقبل أن أضع القلم فكم بودي لو قام بعض الباحثين بتتبع بعض الآيات التي يرد عليها إشكال لدى كثير من الناس فيبينوا معناها ويزيلوا ذلك الإشكال فكم في ذلك من الخير. أسأل الله أن يوفقني وغيري لنقدم خدمة لكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. وهو حسبي ونعم الوكيل والحمد لله رب العالمين.
¥