تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومنه كذلك قوله تعالى:] وجعلوا لله شركاء الجن ... [(الأنعام: 100) لقد استوقفت هذه الآية كثيراً من العلماء، واختلفوا في إعراب كلمة (الجن) وما ترتب عليها من اختلاف في المعنى وتوسيعه، فمنهم من يعدها مفعولاً أول (وشركاء) مفعولاً ثانياً، ومنهم من يعدها بدلاً من شركاء ومنهم من يعدها بالجر ([66]).

ولاشك في أن هذا التعدد في الإعراب وفي القراءة، هو تعدد في المعنى وتوسع فيه، وكل راجع إلى التقديم والتأخير. ويبدو لنا أن عبد القاهر الجرجاني خير من تناولها بالشرح والتوضيح وكفى بذلك دليلاً.

يقول: "ومثال ذلك قوله تعالى:] وجعلوا لله شركاء الجن [ليس بخاف أن في تقديم الشركاء حسناً وروعة ومأخذاً من القلوب أنت لا تجد شيئاً منه إن أنت أخرت فقلت: وجعلوا الجن شركاء لله. وأنك ترى حالك حال من نقل عن الصورة المبهجة والمنظر الرائق والحسن الباهر إلى الشيء الغفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل، ولا تصير النفس به إلى حاصل، والسبب في أن كان ذلك كذلك هو أن للتقديم فائدة شريفة ومعنىً جليلاً لا سبيل إليه مع التأخير.

بيانه أنا وإن كنا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاء وعبدوهم مع الله تعالى، وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم فإن تقديم الشركاء يفيد هذا المعنى ويفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غير الجن. وإذا أخر فقيل: جعلوا الجن شركاء لله، لم يفد ذلك ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنهم عبدوا الجن مع الله تعالى، فأما إنكار أن يعبد مع الله غيره وأن يكون له شريك من الجن وغير الجن، فلا يكون في اللفظ مع تأخير الشركاء دليل عليه. وذلك أن التقدير يكون مع التقديم أن (شركاء) مفعول أول لجعل و (لله) في موضع المفعول الثاني ويكون (الجن) على كلام ثان وعلى تقدير أنه كأنه قيل: فمن جعلوا شركاء لله تعالى؟ فقيل: الجن.

وإذا كان التقدير في (شركاء) أنه مفعول أول و (لله) في موضع المفعول الثاني وقه الإنكار على كون شركاء الله تعالى على الإطلاق من غير اختصاص شيء دون شيء، وحصل من ذلك أن اتخاذ الشريك من غير الجن قد دخل في الإنكار دخول اتخاذه من الجن، لأن الصفة إذا ذكرت مجردة غير مجراة على شيء كان الذي يعلق بها من النفي عاماً في كل ما يجوز أن تكون له الصفة. فإذا قلت: ما في الدار كريم. كنت نفيت الكينونة في الدار عن كل من يكون الكرم صفة له.

وحكم الإنكار أبداً حكم النفي. وإذا أخر فقيل: وجعلوا الجن شركاء لله. كان (الجن) مفعولاً أول والشركاء مفعولاً ثانياً. وإذا كان كذلك كان الشركاء مخصوصاً غير مطلق من حيث كان محالاً أن يجري خبراً على الجن، ثم يكون عاماً فيهم وفي غيرهم. وإذا كان كذلك احتمل أن يكون القصد بالإنكار إلى الجن خصوصاً أن يكونوا شركاء دون غيرهم. جل الله تعالى عن أن يكون له شريك وشبيه بحال.

فانظر الآن إلى شرف ما حصل من المعنى بأن قدم الشركاء واعتبره فإنه ينبهك لكثير من الأمور، ويدلّك على عظم شأن النظم، وتعلم به كيف يكون الإيجاز به وما صورته وكيف يزداد في المعنى من غير أن يزاد في اللفظ، إذ قد ترى أن ليس إلا تقديم وتأخير، وأنه قد حصل لك بذلك من زيادة المعنى ما أن حاولته مع تركه لم يحصل لك، واحتجت إلى أن تستأنف له كلاماً نحو أنْ تقول: وجعلوا الجن شركاء لله. وما ينبغي أن يكون لله شريك لا من الجن ولا من غيرهم.

ثم لا يكون له إذا عقل من كلامين من الشرف والفخامة ومن كرم الموقع في النفس ما تجده له الآن وقد عقل له من هذا الكلام الواحد" ([67]).

وخلاصة القول: يتبيّن من هذه النماذج القرآنية أن باب الاتساع أو ظاهرة التوسع في المعنى أكثر من أن يحاط به في اللغة العربية عموماً وفي لغة القرآن خصوصاً، ذلك أن فيها من المرونة والقدرة على التبدل والتحول في الصيغ والتراكيب وتوليد المعاني والتوسع فيها بطرائق فنية تصل أحياناً إلى درجة الإعجاز.

فهي تأتي أحياناً بالكلمة أو بالعبارة، محتملة أو جامعة أكثر من معنى ضمن أساليب تعبيرية فيها من الدقة ما يعجز عن الإتيان بمثله أساطين اللغة والبيان.

المصادر والمراجع:

1 ـ الإبلاغية في البلاغة العربية لسمير أبي حمدان، منشورات عويدات الدولية، بيروت، باريس، ط1، 1991.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير