تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فقد أكد على قوة التضمين وأشار إلى أن الفعل (تَعْدُ) عُدِّي بعن لتضمنه معنى (نبا وعلا) في قوله: نَبَتْ عنه عينه، وعَلَتْ عينه عنه إذا اقتحمته ولم تعلق به، ثم يردف قائلاً: " ... فإن قلت: أي غرض في هذا التضمين، وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو لا تعد عيناك عنهم؟ قلت: الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك: ولا تقتحمهم عيناك مجاوزتين إلى غيرهم. ونحوه قوله تعالى:] ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم [أي ولا تضموها إليها آكلين لها ([58]).

وقد أشار ابن الشجري إلى أن الفعل (تعد) ضمن معنى (تنصرف) لذلك عدّي بـ (عن)، يقول: "ومن زعم أنه كان حق الكلام لا تعد عينيك عنهم" بالنصب، لأن (تعد) متعد بنفسه فباطل، لأن عدوت وجاوزت بمعنى واحد، وأنت لا تقول: جاوز فلان عينه عن فلان، ولو كانت التلاوة بنصب العين لكان اللفظ يتضمنها محمولاً أيضاً على: لا تصرف عينك عنهم، وإذا كان كذلك، فالذي وردت به التلاوة من رفع العين يؤول إلى معنى النصب فيها، إذ كان (لا تعد عيناك) بمنزلة (لا تنصرف) ومعناه: لا تصرف عينك عنهم، فالفعل مسند إلى العين، وهو في الحقيقة موجه إلى النبي r كما قال:] ولا تعجبك أموالهم [(التوبة: 85) أسند الإعجاب إلى الأموال، والمعنى: لا تعجب بأموالهم" ([59]).

7 ـ التقديم والتأخير:

يتعلق موضوع التقديم والتأخير في الكلام العربي بالأسلوب أكثر منه بالتركيب، ذلك أنه أحد أساليب البلاغة، أتوا به دلالة على تمكنهم في الفصاحة، وملكتهم في الكلام، وانقياده لهم ([60]).

ولعله راجع إلى ما تتميز به اللغة العربية من باقي اللغات بحرِّية أكبر في ترتيب مفرداتها لأجل ظاهرة الإعراب التي احتفظت بها منذ عهودها الأولى، وقد درس النحاة العرب مواقع الكلمات في الجملة بعضها من بعض من حيث المستوى الصوابي، وأطلقوا عليها (الرتبة المحفوظة) أي راعوا فيها مراتب الكلام كمجيء العمدة قبل الفضلة والمبتدأ قبل الخبر، والمضاف قبل المضاف إليه ... بينما أطلقوا اصطلاح (الرتبة غير المحفوظة) على المواقع التي يسمح فيها بحرية تقديم بعض أجزاء الجملة على بعض، أي يكون فيها للمتكلم الحرية في تغيير مواضع الكلمات داخل السياق وفق قواعد لغوية مقررة ([61]).

وقد سار البلاغيون على خُطا النحاة إلا أنهم ركزوا على (الرتبة غير المحفوظة) لما فيها من خروج عن الأصل وعدول عنه لدواع فنية وجمالية، وهو مدار علم البلاغة، فرأوا ـ عكس النحاة ([62]) ـ أن التقديم لا يكون أحياناً على نية التأخير وهو ما يفهم منه أنهم يتوجهون إلى الخروج عن الأصل لما في ذلك من قيم جمالية وأن الشيء قد ينقل من حكم إلى آخر لغرض أو لمعنى يريده المتكلم.

ولعلهم انطلقوا في ذلك من عبارة سيبويه: " ... كأنهم إنما يقدمون الذي بيانه أهم لهم وهم ببيانه أغنى وإن كانا جميعاً يهمانهم يعنيانهم" ([63]).

ومن الأمثلة القرآنية التي يمكن الاستدلال بها في هذا الموضوع قوله تعالى:] كذلك يطبع الله على كل قلب متكبرٍ جبار [(غافر: 35) لو تناولنا هذا التركيب من منظور النحاة لكان الأصل أن يقال: (كذلك يطبع الله على قلبِ كل متكبرٍ جبار) لكن القرآن غيّر موضع المتضايفين (كل وقلب) فجعل المضاف مضافاً إليه، والمضاف إليه مضافاً لفائدة لا يؤديها التعبير المفترض، وبذلك يكون قد أفاد معنيين: أولهما: دلالته على الشمول وهو طبعه على قلب المتكبرين عموماً، ومن ثم يعم قلب كل متكبر جبار، وهو ما يستشف من الآية بداءة، وقد ورد عن الألوسي قوله: "الظاهر أن عموم (كل) منسحب على المتكبر والجبار أيضاً فكأنه اعتبر أولاً إضافة (قلب) إلى ما بعده، ثم اعتبرت إضافته إلى المجموع" ([64]).

وثانيهما: "دلالته على الشموع أيضاً، لكنه يخص هذه المرة القلب كله لا جزأه، فيكون الطبع مستغرقاً كل قلبه وكل قلوب المتكبرين الجبابرة عموماً لا يدع شيئاً منها. ومن ذلك يكون هذا التعبير قد أفاد المعنيين جميعاً، ولو جاء بالتعبير المفترض لأفاد استغراق الجبابرة ولا يفيد استغراق القلب كله ([65]).

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير