تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ومما مسّت إليه حاجة البحث الاتفاقُ على معرفة معنى الهمِّ كما ورد في اللغة والقرآن الكريم قبل الخوض فيما قاله الآخرون، لأن ذلك قد يدفع عدداً من الآراء في هذه المسألة. جاء في اللسان قوله: "وهمَّ بالشيء يهمُّ همَّاً: نواه وأراده وعزم عليه"، وقوله: "والهمُّ: ما همَّ به في نفسه، تقول: أهمني الأمر. والهَمَّة والهِمَّة: ما همَّ به من أمر ليفعله" (7).

وهذا القول ظاهر في وضوح النية والعزم على الفعل في نفس الهامّ بالشيء، ومحلّ ذلك النفْس، لكنّ الهمّ لا يتوقف أثره في النفس فحسب، بل يتعدّى ذلك إلى عمل ما، ففي قوله تعالى: (وهمّوا بما لم ينالوا ((8) دلالة واضحة على أن النيّة بفعل شيء لا ترقى إلى الهمّ به، لأن الهمّ بالشيء أعمّ من نيّته، إذ إن الهمّ يشمل النيّة بالإضافة إلى عمل ما يقوم به صاحبه، وهذا ما فعله الذين عزموا على اغتيال سيّدنا محمد (، لكنّ الله جعل كيدهم في نحورهم، غير أن فعلهم لم يتوقف عند حدود النيّة فحسب، بل تجاوز ذلك إلى القيام ببعض الأعمال التي من شأنها أن تؤدي إلى قتله عليه الصلاة والسلام: (وردّ الله الذين كفروا بغيظهم، لم ينالوا خيراً ((9).

وقد ورد هذا الفعل في مواضع من القرآن الكريم (10)، تدلُّ على ما ذهبنا إليه، وذلك نحو قوله تعالى: (وإذ غدوت من أهلك تبوّئ المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم، إذ همّت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليّهما وعلى الله فليتوكل المتوكلون ((11)، وقوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغمّ أمنة نعاساً يغشى طائفة منكم وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحقّ ظنّ الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كلّه لله يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قُتلنا ههنا قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كُتب عليهم القتل إلى مضاجعهم وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحّص ما في قلوبكم والله عليم بذات الصدور ((12)، وقوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يُضلوك وما يُضلون إلا أنفسهم وما يضرّونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلّمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً ((13)، وقوله تعالى: (كذّبت قبلهم قوم نوح والأحزاب من بعدهم وهمّت كلّ أمّة برسولهم ليأخذوه وجادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحقّ فأخذتُهم فكيف كان عقاب ((14).

فالمقرّ بأن الهمّ وقع من يوسف عليه السلام مُلزمٌ بأن يُقرّ بأنه قام ببعض الأعمال المؤدية إلى فعل الفاحشة، قال الشيخ محمد رشيد رضا: "إن الهم لا يكون إلا بفعل للهامّ" (15)، وهذا مما لا يتناسب مع نبيٍّ كريم للأسباب الآتية:

أولاً: الآيات لا تشير إلى أن يوسف عليه السلام قد تاب ممّا فعل، إن سلّمنا بأنه فعل شيئاً ما، وذلك بما يدلّ عليه معنى الهمّ، يقوّي هذا أن الهمَّ بالمعنى الذي تقدّم متوافقٌ مع ما أقدمت عليه امرأة العزيز.

ثانياً: السياق القرآن يقتضي أن نجعل الهمَّين بمعنى واحد، وأن نقول: إن بين الهمّين فرقاً أمرٌ لا يستقيم مع البيان الإلهي الذي يبلغ من الإعجاز ما لا يُقبل فيه بالتفسير التوفيقي، قال الدكتور فتحي أحمد عامر: "فدلالة الألفاظ على معانيها الظاهرة أمر جليّ في آيات القرآن، لا يحتاج إلى بيان ولا إلى عسر في الفهم، وتعمّل في الفكر، لو كانت المسألة وقوفاً عند المعاني الأولى، أو الدلالات اللغوية، وذلك لا يتناقض بحال مع دلالات أخرى تفهم من النظم، ويوحي بها التركيب" (16).

وليس ثمة ما يدلّ على أن بين الكلمتين فرقاً من حيث المعنى، قال الإمام ابن الجوزي: "واختلفوا في همّه بها على خمسة أقوال: أحدها: أنه كان من جنس همِّها، ولولا أن الله تعالى عصمه الفعل، وإلى هذا المعنى ذهب الحسن، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، وهو قول عامة المفسرين المتقدمين، واختاره من المتأخرين جماعة منهم ابن جرير، وابن الأنباري، وقال ابن قتيبة: لا يجوز في اللغة: هممت بفلان وهمّ بي، وأنت تريد اختلاف الهمّين. واحتجّ مَن نصر هذا القول بأنه مذهب الأكثرين من السلف والعلماء الأكابر" (17). والصواب أن يكون المعنى واحداً، ويكون الاجتهاد في معرفة وقوع الهمّ منه أو عدمه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير