تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ثم قال في اللسان: "وسئل ثعلب عن قوله عزّ وجل: (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه (؛ قال: همَّت زَليخا بالمعصية مصرّة على ذلك، وهمَّ يوسف عليه السلام بالمعصية، ولم يأتها ولم يصرّ عليها، فبين الهمّتَين فرق. قال أبو حاتم: وقرأت غريب القرآن على أبي عبيدة، فلما أتيت على قوله: (ولقد همّت به وهمّ بها ((الآية)، قال أبو عبيدة: هذا على التقديم والتأخير، كأنه أراد: ولقد همّت به ولولا أن رأى برهان ربِّه لهمَّ بها" (18).

وليس في الآية ما يدلّ على ما ذهب إليه ثعلب، فهو لا يستقيم والمعنى اللغوي للهمّ، ولا يقتضيه السياق القرآني كما تقدّم. وأمّا قول أبي حاتم عن أبي عبيدة؛ ففيه ما ينقض ما أراده ثعلب، وإن كان ثمة كلام عليه سيأتي في موضعه من هذا البحث.

ثالثاً: اشتراط يوسف عليه السلام للخروج من السجن معرفة الحقيقة، وهذا مدعاة إلى أنه بريء كل البرء مما نُسب إليه، لأن من توافرت لديه النيَّة لفعل ذلك الأمر، لا يتَّخذ هذا الموقف، ولا سيما أنه ما اشترط ذلك لتأويل الرؤيا، وإنما اشترطه عندما طلب الملك إخراجه من السجن.

وهذا هو العنصر الجديد في القصة، وهو ظهور الملك في سياق النص، إذ كان الأمر محصوراً ضمن دائرة لم تتجاوز العزيز، وهذا يفسِّر ما حصل في الظرف (الآن (في قوله تعالى على لسان امرأة العزيز: (الآن حصحص الحق ((19)، فما الذي وقع أو تغيَّر أو حصل حتى تعترف امرأة العزيز بفعلها؟ ما حصل أن الأمر تجاوز قدرة زوجها وسلطانه، ووصل إلى الملك، وهو ذو السلطان الأعلى، وأمامه لا يقوى الناس إلا على قول الحقيقة. فزوجها هو العزيز، وهو بمنزلة الوزير هذه الأيام، فالملك كان يجهل ما حصل ليوسف عليه السلام إلا بعد أن وصل الأمر إليه، فجمع النسوة، أمَّا العزيز؛ فكان على علم بكلِّ ما جرى ليوسف عليه السلام، ودليل آخر يؤكد أن العزيز لم يكن الملك نفسه كما ذهب إلى ذلك بعضهم ـ هو أن يوسف نفسه عليه السلام أصبح عزيزاً فيما بعد، وهذا ظاهر في قوله تعالى: (قالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين ((20).

وأمَّا قول من قال: إن امرأة العزيز خشيت من النسوة؛ فيُردُّ بأنهن يفتقدن الدليل على ذلك، لأنهن لا يعرفن حقيقة الأمر كما هي، فهن يعرفن ما قالته لهن بسبب لومهن لها، والصواب أن ذكر الملك لم يظهر في القصة إلى أن جمع النسوة وهو الأمر الذي أصر عليه يوسف عليه السلام لإظهار براءته.

وما يقويه أن يوسف نفسه عليه السلام طلب ممن نجا من صاحبيه في السجن أن يذكره عند ربه، فهو يريد أن يوصل أمره إلى الملك، ولما وصل أمرُه حدث ما حدث، غير أنه ما كان يستطيع أن يقرن تأويل حلم الملك بإظهار الحقيقة، لأن خلقه يأبى ذلك أولاً، وهذه ليست بتلك ثانياً، ولا على سياقها، ولمّا طلب الملك الإتيان به؛ اشترط ظهور الحقيقة، وبها تتبيَّن براءته، لأن ذلك علَّةُ ما هو فيه، والبريء ذو الصفات الخاصة لا يجبّ أن يخرج من السجن إلا إذا ثبتت براءته، فهو يريد الخروج المبني على حقّه، لا على عفو الملك أو ما شابهه، ولو قبل بالخروج دون طلبه معرفة الحقيقة؛ لما وصلت قصته إلى الأسماع والأصقاع. وسياقنا هذا يبيّن أن يوسف لمّا طلب من أحد صاحبيه أن يذكره عند ربه، أراد بذلك أن يوصل أمره إلى الملك، وهذا معنى (اذكرني ((21)، أي اذكر أمر قصتي وظلمي.

رابعاً: ظهور علم يوسف عليه السلام وأنه رجل صالح، ومثله لا يفعل ما نُسب إليه، وهذا ظهر من سؤال الملك للنسوة في قوله تعالى: (قال ما خطبكنّ إذ راودتنّ يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحقّ أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين ((22). واشتراط يوسف عليه السلام للخروج من السجن ظهورَ الحقيقة ـ بالإضافة إلى ما ذُكر سابقاً ـ جعل امرأة العزيز تعلم علم اليقين أن حقيقة الأمر ستظهر، ومكرها سينكشف، وكذبها لن ينفعها، ولذلك أكدت صدقه بـ "إن واللام"، بالإضافة إلى إقرارها بالمراودة بصريح الكلام.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير