وفي المسألة ثلاثة أوجه: أن يكون الجواب مقدراً من نفس ما تقدمها، وهو أقواها، أو أن يكون متقدماً عليها، فيكون الأمر قائماً على التقديم والتأخير، ويكون الوقف على قوله تعالى: (ولقد همّت به (، أو أن يكون الجواب محذوفاً، وتقديره: لولا أن رأى برهان ربّه لارتكب الفاحشة، والعياذ بالله، وهو أضعفها.
وقد تتبعت هذا الأسلوب في القرآن الكريم، فوجدت أنّ المواضع التي ذُكر فيها الجواب، جاءت "لولا" فيها مقترنة بالواو على الأغلب، وأن التي لم يُذكر فيها الجواب ولم يتقدّمها ما يدلّ عليه، جاءت فيها "لولا" مقترنة بالواو أيضاً، وأن التي لم يُذكر فيها الجواب، وقد تقدمها ما يدلّ عليه، جاءت فيها "لولا" خلواً من الواو.
فأمّا التي ذُكر فيها الجواب، وكانت مقترنة بالواو؛ فنحو قوله تعالى: (ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين ((74)، وقوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتّبعتم الشيطان إلا قليلاً ((75)
وقوله تعالى: (ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمّت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء ((76)، ومثل هذا كثير في القرآن الكريم (77).
وأمّا التي لم يُذكر فيها الجواب، ولم يتقدم عليها ما يدل عليه، وكانت "لولا" فيها مقترنة بالواو أيضاً؛ فنحو قوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله تواب حكيم ((78)، وقوله تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ((79)، ومثل هذا أقلّ مما سبق (80).
وأمّا التي لم يُذكر فيها الجواب، وقد تقدّمها ما يدلّ عليه، وجاءت فيها "لولا" خلواً من الواو؛ فنحو قوله تعالى: (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله ((81)، وقوله تعالى: (ولما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لولا أن تُفنّدون ((82)، وقوله تعالى: (إن كاد ليُضلّنا عن آلهتنا لولا أن صبرْنا عليها وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضلّ سبيلا ((83)، ومثل هذا يكاد يكون كثيراً في القرآن الكريم (84). ولا شاهد في "لولا" إذا جاءت خلواً من الواو، وكان جوابها مذكوراً، كقوله تعالى: (لولا كتاب من الله سبق لمسّكم فيما أخذتم عذاب عظيم ((85)، وقوله تعالى: (لولا أن منَّ الله علينا لخسف بنا ويكأنّه لا يفلح الظالمون ((86).
فالملاحظ في هذا أن "لولا" جاءت غير مقترنة بالواو في المواضع التي تقدّم فيها جوابها عليها، وأنها تأتي مقترنة بالواو في المواضع التي لا يتقدم فيها جوابها عليها. وهذا هو الشاهد مما سبق، إذ يدلُّ ذلك على أن جواب لولا في قوله تعالى: (ولقد همّت به وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه (متقدِّمٌ عليها، ولو كان غير ذلك؛ لجاءت مقترنة بالواو، أي: "ولولا أن رأى برهان ربه"، لأن هذا هو نمط هذا الأسلوب في القرآن الكريم، كما دلّ على ذلك ما تقدّم من الآيات الكريمة. والله أعلم.
وفي هذا السياق قال الشيخ محمد رشيد رضا: "لو أن ذلك وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: "ولقد همّ بها وهمّت به"، لأنّ الأوّل هو المقدَّم بالطبع والوضع، وهو الهمّ الحقيقي، والهمّ الثاني متوقِّف عليها، لا يتحقَّق بدونه" (87) ,
وخلاصة ما تقدّم قولُ الفخر الرازي: "إنّ يوسف عليه السلام قد شهد الله تعالى ببراءته بقوله تعالى: (إنه من عبادنا المخلصين ((88)، وشهد الشيطان ببراءته بقوله: (فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين ((89)، وشهد ببراءته الشاهد من أهل امرأة العزيز إذ قال: (إن كان قميصه قدّ من قبل فصدقت وهو من الكاذبين، وإن كان قميصه قدّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلما رأى قميصه قدّ من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم، يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين ((90)، وشهد ببراءته النسوة اللائي قطعن أيدهن بقولهن: (ما علمنا عليه من سوء (، وشهدت ببراءته زوجة العزيز بقولها: (الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه وإنه لمن الصادقين (، فالذي يريد أن يتهم يوسف بالهمّ عليه أن يختار أن يكون من حزب الله أو حزب الشيطان، وكلاهما شهد ببراءة يوسف، فلا مفرّ له من الإقرار بالحق على أي حال، وهو براءة سوف من الهمّ بها" (91).
¥