قال أبو البركات ابن الأنباري: "لولا" حرف، يمتنع له الشيء لوجود غيره، و"أن رأى" في موضع رفع، لأنه مبتدأ، ولا يجوز إظهار خبره بعد "لولا" لطول الكلام بجوابها، وقد حُذف خبر المبتدأ ههنا والجواب معاً، والتقدير: لولا رؤية برهان ربّه موجودةٌ لهمّ بها، ولا يجوز أن يكون
(وهمّ بها (جواب (لولا (، لأن جواب "لولا" لا يتقدم عليه" (58).
وقال العكبري: "قوله تعالى: (لولا أن رأى (جواب (لولا (محذوف، تقديره: لهمَّ بها، والوقف على هذا: (ولقد همت به (، والمعنى: أنه لم يهمَّ بها. وقيل التقدير: لولا أن رأى البرهان لواقع المعصية" (59).
ويلاحظ أن الأمر محصور في جواز أن يكون جوابها متقدماً عليها، أو في عدم ذلك، ومن لا يجيز منهم جعل الجواب متقدماً، قدَّره بـ "لهمّ بها" (60)، فالاتفاق بين هؤلاء على معنى الجواب، والخلاف في كونه متقدماً، أو مقدَّراً. قال الزركشي: "وقد قيل في قوله تعالى: (وهمّ بها لولا أن رأى برهان ربّه (، لهمّ بها، لكنه امتنع همُّه بها لوجود رؤية برهان ربّه، فلم يحصل منه همّ البتة، كقولك: لولا زيد لأكرمتك؛ المعنى أن الإكرام ممتنع لوجود زيد، وبه يتخلَّص من الإشكال الذي يورد، وهو: كيف يليق بهم الهمّ؟ " (61).
غير أنهم لا يجيزون تقديم الشرط على الجواب لافتقار ذلك لعلة الجزم (62)، فهل يجري ذلك على "لولا"، ولا سيما أنها غير جازمة. قال ابن جني في الخصائص: "ولا يجوز تقديم الجواب على المجاب، شرطاً كان أو قسماً أو غيرهما، ألا تراك لا تقول: "أقم إن تقم"، فأما قولك: "أقوم إن قمت"، فإن قولك: "أقوم" ليس جواب شرط، ولكنه دالّ على الجواب، أي: إن قمت قمت، ودلت "أقوم" على "قمت".
ومثله "أنت ظالم إن فعلت"، أي: إن فعلت ظلمت، فحذفت "ظلمت"، ودل قولك: "أنت ظالم" عليه" (63). وقال في سرِّ صناعة الإعراب: "ولا تدخل اللام في جواب "لو ولولا" إلا على الماضي دون المستقبل، وكان أبو عبي قد قال لي قديماً: إن اللام في جواب "لولا" زائدة مؤكدة، واستدلَّ على ذلك بجواز سقوطها" (64).
قال الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ جعلت جواب لولا محذوفاً، يدلّ عليه "همّ بها"، وهلا جعلته هو الجواب مقدماً؟ قلت: لأن "لولا" لا يتقدّم عليها جوابها من قبل أنه في حكم الشرط، وللشرط صدر الكلام، وهو مع ما في حيّزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، ولا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، وأمّا حذف بعضها إذا دلّ الدليل عليه فجائز" (65).
وكلام أبي عبيدة لأبي حاتم في قوله تعالى: (ولقد همّت به وهمّ بها (: "هذا على التقديم والتأخير، كأنه أراد: ولقد همَّت به ولولا أن رأى برهان ربِّه لهمَّ بها" نصٌّ على جواز التقديم والتأخير، وإن كان كلامه، لا يبطل أن يكون الجواب مقدّراً من جنس ما تقدَّمها. ولا سيما أن الكوفيين أجازوا تقديم جواب الشرط (66)، وكذا بعض البصريين، ومنهم أبو زيد الأنصاري، والمبرد (67).
قال أبو حيان: "لم يقع منه عليه السلام هم بها البتة (68)، بل هو منفي لوجود رؤية البرهان كما تقول: "قارفت الذنب لولا أن عصمك الله تعالى"، ولا نقول:
إن جواب "لولا" متقدِّم عليها، وإن كان لا يقوم دليل على امتناع ذلك، بل صريح أدوات الشرط العاملة مختلف في جواز تقديم أجوبتها عليها، وقد استدل من ذهب إلى الجواز بوجوده في لسان العرب، فقد قال سبحانه: (إن كادت لتبدي بِهِ لولا أَن ربطنا على قلبها ((69)، فقوله سبحانه: (إن كادت (إما أن يكون هو الجواب على ما ذهب إليه ذلك القائل، وإما أن يكون دليل الجواب على ما قررناه" (70).
على أن حذف جواب لولا في كلامهم كثير (71)، وفي القرآن الكريم جملة منه، قال أبو البركات ابن الأنباري: "وقد حذف الجواب في كتاب الله تعالى وكلام العرب كثيراً ... قال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته وأن الله رؤوف رحيم ((72)، فحذف جواب لولا، والتقدير فيه: ولولا فضل الله عليكم ورحمته لفضحكم بما ترتكبون من الفاحشة، ولعاجلكم بالعقوبة" (73). وهذا الحذف الكثير يدلُّ على أنّ ما تقدّم "لولا" أغنى عن ذكر جوابها، وأن تقدُّم ما يدلُّ على الجواب يبلغ حدَّ القياس، فإذا كان ما تقدَّمها لا يدلُّ دلالة واضحة على جوابها؛ فإنّ التقدير يُستخلص من شرطها نفسه، كما هو ظاهر في الآية السابقة.
¥