وقال ابن عقيلة المكي (ت: 1150 هـ) عن التخصيص والبيان: " أقول: تسمية هذا النوع نسخاً تجوزاً، إذ النسخ رفع الحكم الأول، وهذا تخصيص وبيان في آيات الاستثناء المذكورة، وإنما سمي نسخاً: لكونه رفعاً لعموم الحكم، وإلا فليس هو من النسخ الحقيقي. وكل ما هو من هذا النوع فليس من قبيل الناسخ والمنسوخ. وسيأتيك في السور التالية، وقد سماه كثير من العلماء ناسخاً ومنسوخاً، فذكرناه لتتميم الفائدة" (10).
ويمكن التمثيل لإطلاق السلف النسخَ على هذه الأنواع بما يلي:
أولاً: إطلاقهم النسخ على تخصيص العام:
مثاله: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً [غير بيوتكم حتى تستأنسوا) النور: 27] الآية ثم نَسَخَ واستثنى من ذلك: (ليس عليكم جناح أن تدخلوا بيوتاً غير مسكونة فيها متاع لكم) [النور: 29] (11).
قال ابن الجوزي (ت: 597 هـ): " وهذا تخصيص لا نسخ " (12).
ثانياً: إطلاقهم النسخ على تقييد المطلق:
مثاله: ما روي عن ابن عباس أنه قال في قوله تعالى: (من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد) [الإسراء: 18] أنه ناسخٌ لقوله تعالى: (من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه ومن كان يريد حرث الدنيا نؤته منها) [الشورى: 20].
قال الشاطبي: " وعلى هذا التحقيق تقييد لمطلق؛ إذ كان قوله: (نؤته منها) مطلقاً ومعناه مقيد بالمشيئة، وهو قوله تعالى: (لمن نريد) وإلا فهو إخبار، والأخبار لا يدخلها النسخ" (13).
ثالثاً: إطلاقهم النسخ على تبيين المبهم:
مثاله: ما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: (قل الأنفال لله والرسول) [الأنفال: 1]، أنه منسوخ بقوله تعالى: (واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه) [الأنفال: 41].
وإنما ذلك بيانٌ لمبهم في قوله تعالى: (لله والرسول) [الأنفال: 1] (14).
رابعاً: إطلاقهم النسخ على تبيين المجمل وتفسيره:
ومثاله: ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لله ما في السماوات والأرض وإن تيدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله) [البقرة: 284] قال: فاشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بركوا على الركب فقالوا: أي رسولَ الله، كُلِّفْنا من الأعمال ما نطيق: الصلاة والصيام والجهاد والصدقة، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم: سمعنا وعصينا، بل قولوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير ". قالوا: سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير، فلما اقترأها القوم ذلَّتْ بها ألسنتهم، فأنزل الله في إثرها: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) فلما فعلوا ذلك نسخها الله تعالى فأنزل الله عز وجل: چ (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا) قال: نعم، (ربنا ولا تحمل علينا إصراً كما حملته على الذين من قبلنا) قال: نعم، (ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) قال: نعم، (واعف عنا واغفر لنا وارحمنا أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين) قال: نعم (15).
قال الشاطبي: " ذلك من باب تخصيص العموم، أو بيان المجمل " (16).
خامساً: إطلاقهم النسخ على المُنسأ وهو ما تُرك العمل به مؤقتاً لانتقال العلة:
ومثاله: من قال بنسخ جميع الآيات الآمرة بالعفو أو الصفح أو الإعراض عن المشركين والكفار، بالآيات الآمرة بقتالهم أو بأخذ الجزية منهم.
قال قتادة: " كلُّ شيءٍ في القرآن فأعرض عنهم وانتظر منسوخٌ، نسخته براءة والقتال" (17).
¥