تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

قال الزركشي في بيان هذا الإطلاق: " ما أمر به لسبب ثم يزول السبب؛ كالأمر ـ حين الضعف والقلة ـ بالصبر وبالمغفرة للذين يرجون لقاء الله، ونحوه من عدم إيجاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد ونحوها، ثم نسخه إيجاب ذلك. وهذا ليس بنسخ في الحقيقة وإنما هو نسءٌ، كما قال تعالى: (أو ننسئها) فالمنسأ هو الأمر بالقتال، إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضعف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى.

وبهذا التحقيق تبين ضعف ما لهج به كثير من المفسرين في الآيات الآمرة بالتخفيف أنها منسوخة بآية السيف، وليستْ كذلك بل هي من المنسَأ، بمعنى: أن كل أمرٍ وَرَدَ؛ يجب امتثاله في وقتٍ ما لعلة توجب ذلك الحكم، ثم ينتقل بانتقال تلك العلة إلى حكم آخر، وليس بنسخ، إنما النسخ الإزالة حتى لا يجوز امتثاله أبداً " (18).

سادساً: إطلاق النسخ على نقل حكم الإباحة الأصلية:

وقع في بعض كلام السلف إطلاق اسم النسخ على تغيير الإباحة الأصلية إلى حكمٍ جديدٍ بالنص:

مثاله: ما وقع في شأن تحريم الخمر، فقد ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى) [النساء: 43] و (يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس) [البقرة: 219] نسختهما التي في المائدة: (إنما الخمر والميسر) [المائدة: 90].

قال السخاوي بعد نقله كلام مكي (19) في نسخها: " قوله (20): إنها ناسخة لما كان مباحاً من شرب الخمر؛ يلزم منه: أن الله عز وجل أنزل إباحتها ثم نسخ ذلك. ومتى أحل الله عز وجل شرب الخمر؟!، وإنما كان مسكوتاً عنهم في شربها، جارون في ذلك على عادتهم ثم نزل التحريم، كما سكت عنهم في غيرها من المحرمات إلى وقت التحريم، وهذه الآية وما ذكر من الآيات الكلُّ في التحريم كما جاء تحريم الميتة في غير آية " (21).

وقال ابن العربي: " وأما الذي كانت العرب تفعله ... فليس من النسخ في شيء لأنه لم يكن حُكماً أحكم، ولا شرعاً، ولا ديناً مهد، وإنما كان باطلاً يُفعل، وحقاً يُجهل؛ فقذف الله بالحق على الباطل فدمغه، وأعلمَ الصحيحَ في ذلك وبلغه" (22).

وقال: " لأن فعل الجاهلية ليس بحكمٍ فيرفعه آخر، وإنما هو كله باطل فنسخ الله الباطلَ بالحق" (23).

قال السيوطي (ت: 911 هـ) في هذا وما قبله: " والذي أقوله: إن الذي أورده المكثرون أقسام:

قسم ليس من النسخ في شيء ولا من التخصيص، ولا له بهما علاقةٌ بوجه من الوجوه ...

وقسم هو من قسم المخصوص، لا من قسم المنسوخ، وقد اعتنى ابن العربي بتحريره فأجاد ...

وقسم رفع ما كان عليه الأمر في الجاهلية أو شرائع من قبلنا، أو في أول الإسلام ولم ينزل في القرآن: كإبطال نكاحِ نساء الآباء، ومشروعيةِ القصاص والدية، وحصرِ الطلاق في الثلاث. وهذا إدخاله في الناسخ قريب، ولكن عدم إدخاله أقرب، وهو الذي رجحه مكي وغيره (24). ووجهوه: بأن ذلك لو عُدَّ في الناسخ لعُدَّ جميع القرآن منه، إذ كله أو أكثره رافعٌ لما كان عليه الكفار وأهل الكتاب. قالوا: وإنما حق الناسخ والمنسوخ أن تكون آيةٌ نسختْ آيةً ... نعم، النوع الأخير منه، وهو رافع ما كان في أول الإسلام، إدخالُه أوجهُ من القسمين قبله " (25).

والله تعالى أعلم ..

12/ 10 / 1428هـ

ــــــــــــــــ

حواشي:

(1) انظر: معالم أصول الفقه عند أهل السنة والجماعة للجيزاني: (254)، ومذكرة أصول الفقه للشنقيطي: (68).

(2) انظر: الموافقات للشاطبي: (3/ 81)، والآيات المنسوخة: (21).

(3) إعلام الموقعين.

(4) الموافقات: (3/ 81). وانظر منه أيضاً: (3/ 88).

(5) جمال القراء: (1/ 247).

(6) السابق: (1/ 394).

(7) السابق: (1/ 341 ـ 342).

(8) الجامع لأحكام القرآن: (2/ 71).

(9) البرهان: (2/ 44).

(10) الزيادة والإحسان: (5/ 298).

(11) رواه البخاري في الأدب المفرد رقم (1056) وابن الجوزي في نواسخ القرآن واللفظ له. وانظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس: (199).

(12) المصفى بأكف أهل الرسوخ: (45).

(13) الموافقات: (3/ 81 ـ 81).

(14) انظر: الموافقات: (3/ 83).

(15) رواه مسلم في: برقم (125).

(16) الموافقات: (3/ 85). وقال ابن حجر: " ويحتمل أن يكون المراد بالنسخ ... التخصيص كما هي عادة المتقدمين في إطلاق النسخ عليه كثيراً". فتح الباري: (8/ 207).

(17) رواه ابن الجوزي في نواسخ القرآن: (427 ت)، وانظر هذا المعنى في الناسخ والمنسوخ لقتادة: (33، 40، 41، 42، 45، 47).

(18) البرهان: (2/ 42).

(19) الإيضاح: (166).

(20) أي مكي بن أبي طالب.

(21) جمال القراء: (1/ 259).

(22) الناسخ والمنسوخ: (2/ 55). وقد كان حديثه عن القصاص الذي كانت تفعله العرب، وقدم قبله أن ما كان عليه بنو إسرائيل من تعيين القصاص منسوخ بالتخيير بين القصاص أو الدية.

(23) الناسخ والمنسوخ: (2/ 84). وانظر: (2/ 87، 146) منه.

(24) انظر: الإيضاح لمكي: (107 ـ 108).

(25) الإتقان: (1/ 652 ـ 653) باختصار.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير