تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

ولابد والحالة هذه من الجمع بين القراءتين: قراءة الوحي القرآنيّ والهدي النبويّ في إتباعه، وقراءة الوجود بسننه وقوانينه وآياته -وآنذاك- سوف يرى الإنسان آيات الله البيِّنات في النفس البشريَّة والكيان الاجتماعيّ والبناء الأسريّ ومنهج تجديد حال الأمة وإصلاح شأنها كما سيرى ذلك في سنن الكون وقوانينه.

* الأمم المصطفاة وخصائصها:

لقائل أن يقول: لِمَ يربط تقدمنا وتراجعنا بالقرآن المجيد وهناك أمم كثيرة لا تؤمن بالقرآن، ولا تعرفه وقد حققت لنفسها مستويات عالية من التنمية والتقدم؟!

ونقول: إنَّنا أمة لم تنشأ عن فراغ بل إنَّنا امتداد لأمم سبقتنا. فنحن ذريّة من بعدهم. ونحن ذريَّة من حمل الله مع نوح، ونحن على إرث من إبراهيم وبنيه. ولقد اصطفى الله آدم من بين الخلق ونوحاً وآل إبراهيم وآل عمران على العالمين. وشاءت حكمته في مرحلة من المراحل أن يصطفي بني إسرائيل ويجعل منهم نموذجاً للعالم يمكن لأمم الأرض أن تراه وتتأثَّر به، وتحاول أن تكون مثله تتأسَّى به وتتبَّعه، وتسلك سبيله. لكن التجربة الإسرائيليَّة قد فشلت لأنَّ بني إسرائيل بعد أن استوفوا مؤهّلات الاصطفاء بما صبروا، وجعل الله منهم أئمة وأنبياء وخلفاء وملوكاً وقعوا في حالة هجر لما أوحى إليهم، وخصام مع النبيّين الذين جاءوهم بذلك الوحي، ونسيان وتناسيٍ لبعض ما أنزل إليهم، وتنكروا للتوراة، وتغيّرت علاقاتهم بالكتاب إلى مثل علاقة الحمار بالكتاب لا يملك إلا أن توضع على ظهره حملاً قد يشعر بخفته أو ثقله ليس إلا، أما فهمه واستيعاب معانيه، أو العمل به والسير بمقتضاه فذلك أمر لا تجيده الحمير، ولذلك فقد قام الله سبحانه وتعالى باستبدال تلك الأمَّة بنا، وإزاحتها عن موقعها ليحلّنا محلها فينظر سبحانه وتعالى كيف نعمل!!

وقد حذّرنا تعالى أن نسلك سبيلهم، أو نقع فيما سقطوا فيه، وضربهم لنا مثلاً فقال: (مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (الجمعة: 5)، وقال في استبدالهم بنا: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) (فاطر: 32) لنكون الأمة البديل عن بني إسرائيل فلا نسلك سبيلهم، ولا نسقط فيما سقطوا فيه. فنحن أمة اصطفانا الله ورثة لرسالاته فلا نملك أن ننصرف عن هذه الحالة أو أن نتابع الأمم الأخرى.

ومن حيث العلاقة الحماريَّة بالكتاب الكريم فإنَّهم قد سقطوا في أمرين عظيمين:

الأول: أنَّهم نسوا حظاً مما ذكروا به فتقطعت بينهم روابط الأمَّة، وأغرى الله بينهم العداوة والبغضاء وجاءتهم المصائب من كل جانب فتقطعوا في الأرض أمماً وتشتتوا في جوانبها أشتاتاً بعد أن جمعهم الله في أرض قدّسها.

الثاني: أنَّهم هجروا كتبهم المنزلة التوراة والإنجيل والزبور وصحف إبراهيم وموسى وقالوا: "ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم"، وحملوا ما أنزل الله إليهم من كتب حمل الحمير وفقهوا دينهم بمنهج بقريّ أشارت إلى ذلك قصة البقرة.

وما ذكر الله سبحانه وتعالى قصصهم لنا بكل تلك التفاصيل وأعادها مراراً إلا ليحذِّرنا من الوقوع فيما سقطوا فيه. ومن المؤسف أن كل تلك التحذيرات الإلهيَّة والتنبيهات النبويَّة التي وجّهت إلى أمتنا جرى نسيان بعضها، وتجاهل البعض الآخر منها فسقطت أمتنا في الخطيئتين اللّتين سقط فيهما من سبقنا: نسينا حظاً مما أنزل علينا فأغرى ذلك بيننا العداوة البغضاء، وتحلَّلت روابطنا وتفككت علاقاتنا. ثم رجعنا للسقوط في الحالة الأخرى وهي حالة إقامة العلاقة الحماريَّة مع القرآن الكريم بدلاً من العلاقة الإنسانيَّة. والعلاقة الحماريَّة إذا كان لها أن تنتج فقهاً أو فهماً في الكتاب فإنَّ الفقه الذي تنتجه والفهم الذي توجده لا يتجاوز خصائص "الفقه البقريّ" الذي أشرنا إليه.

فهل من سبيل إلى تغيير حالة الهجر ووضع حدٍّ لها ونهاية، والعودة إلى القرآن من جديد؟

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير