وحتى يتبين المقصود بالحديث لا بد من بيان معنى الآية التي أشار إليها هذا الحديث وهي قوله تعالى: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركنٍ شديد) [هود: 80].
قال المفسرون: أراد لوط عليه السلام بقوله: (أو آوي إلى ركن شديد) أي: قبيلة قوية مانعة، تمنعكم من الوصول لأضيافي، وذلك أن الملائكة لما جاءت لوطاً عليه السلام في صورة شباب حِسان، في غاية الجمال والكمال ـ وهو لا يدري أنهم ملائكة ـ (وضاق بهم ذرعاً وقال هذا يوم عصيب) [هود: 77] أي: شديدٌ حرجه، لأنه يعلم أن قومه لا يتركونهم، فكان ما خشي، حيث جاءه قومه (يهرعون إليه) [هود: 78] أي: مسرعين مبادرين، يريدون أضيافه بعملهم الخبيث، فاشتد قلق لوط عليه السلام وخوفه على أضيافه، فقال: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد) [هود: 80] أي قبيلة مانعة لمنعتكم، وعندها أخبرته الملائكة بحالهم، ليطمئن قلبه: (قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك) [هود: 81] (39).
ولا شك أن العصبة والقبيلة منعت بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من أعداءهم، قال تعالى في قصة هود عليه السلام: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول وإنا لنراك فينا ضعيفاً ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز) [هود: 91].
قال الشيخ الأمين الشنقيطي: " بين تعالى في هذه الآية الكريمة: أن نبيه شعيباً عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام منعه الله من الكفار، وأعز جانبه بسبب العواطف العصية، والأواصر النسبية من قومه الذين هم كفار. وهو دليل على المتمسك بدينه قد يعينه الله ويعزه بنصرة قريبه الكافر، كما بينه تعالى في مواضع أخر. كقوله في صالح وقومه: (قالوا تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ثم لنقولن لوليه ما شهدنا مهلك أهله) [النمل: 49] الآية.
ففي الآية دليل على أنهم لا قدرة لهم على أن يفعلوا السوء بصالح عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام إلا في حال الخفاء، وأنهم لو فعلوا به ذلك خفاء وسرقة لكانوا يحلفون لأوليائه الذين هم عصبته أنهم ما فعلوا به سوءاً، ولا شهدوا ذلك ولا حضروه خوفاً من عصبته. فهو عزيز الجانب بسبب عصبته الكفار. وقد قال تعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم: (ألم يجدك يتيماً فآوى) [الضحى: 6] أي: آواك بأن ضمك إلى عمك أبي طالب. وذلك بسبب العواطف العصبية، والأواصر النسبية، ولا صلة له بالدين ألبتة ... لهذا لما كان نبي الله لوط عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام ليس له عصبة في قومه الذين أرسل إليهم، ظهر فيه أثر عدم العصبة. بدليل قوله تعالى عنه: (قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركنٍ شديد) [هود: 80]. وهذه الآيات القرآنية تدل على أن المسلمين قد تنفعهم عصبية إخوانهم الكافرين" (40).
فإذا كان هذا هو معنى الآية وله نظائر في كتاب الله تعالى، وقد استجار النبي صلى الله عليه وسلم بالمطعم بن عدي لما جاء من الطائف (41)، فما المنكر في أن يتمنى لوطٌ عليه السلام أن يكون له عشيرة تحميه من قومه كما كان لغيره من الأنبياء عليهم والسلام، ولذلك جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَى لُوطٍ إِنْ كَانَ ليأوي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ إِذْ قَالَ لقومه: (لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركنٍ شديد) [هود: 80] ومَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ من نبي إِلاَّ في ثروة مِنْ قَوْمِهِ" (42).
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: (ويرحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركنٍ شديد). فقد اختلف العلماء في معناه على عدة أقوال وهي كما يلي (43):
القول الأول: أن المعنى: رحمه الله على هذا التمني الذي فرط منه في وقت الضيق والشدة، حيث سها فذكر الأسباب المحسوسة، من قومه وعشيرته، مع أنه كان يأوي إلى أشد الأركان وأقواها، وهو الله تعالى.
وإلى هذا القول ذهب ابن قتيبة (44)، والبغوي (45)، والقاضي عياض (46)، وابن الأثير (47)، والقرطبي (48)، وهو ظاهر كلام الطحاوي (49)، وجوّزه النووي (50)، ورجحه ابن حجر (51)، وغيره (52).
قال ابن قتيبة في معنى ترحمه صلى الله عليه وسلم على لوط: " يريد سهوه في هذا الوقت الذي ضاق فيه صدره، واشتد جزعه بما دهمه من قومه" (53).
¥