ثم تأتي الآيات التي تذكر أهل الظلم بأنواعهم، فذكر الله اليهود، وهم أعظم الناس ظلما وبغيا، وذكر صفاتهم، فقال: ((ألم تر إلى الذين أتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ... )) الآية، وفي قوله: ((أتوا نصيبا من الكتاب)) فائدة وهي: أنه مع كونهم عندهم حظاً من العلم وحظاً من الرسالة، إلا أن ذلك لم يكن عاصماً لهم من إتباع سبيل الضلالة، والله تعالى ذكر أوصافهم ولم يذكر أعيانهم، لأن الوصف أنفع لعباد الله، فكل من اتصف بهذا الوصف فهو مذموم وإن لم يكن من أهل الكتاب.
ومن أعظم الظلم الشرك بالله تعالى، وقد نهى الله عنه في هذه السورة مرتين، وفي الموضع الأول لما ذكر اليهود، وأنهم أهل افتراء وكذب، ختم الآية بـ ((فقد افترى إثما عظيما))، ولما ذكر في الموضع الثاني مشاقة الرسول ومخالفته، ناسب ختم الآية بـ ((فقد ضل ضلالا بعيدا))، وقد ذكر نحو ذلك ابن جماعة الكناني رحمه الله في كشف المعاني ص 147.
وقال تعالى: ((ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل يزكي من يشاء و لا يظلمون فتيلا)) وفي موضع آخر في السورة كذلك ((ولا تظلمون فتيلا))، وفي أواخر السورة ((و لا يظلمون نقيرا))، والفتيل: المفتول، وسمي ما يكون في شق النواة فتيلاً لكونه على هيئة فتيل الحبل، وهذا يضرب به المثل في الشيء الحقير، والنقير: نقطة في ظهر النواة ويضرب بها المثل في الشيء الطفيف، مفردات الراغب رحمه الله ص 821.
وقال الله تعالى ((إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل ... )) الآية، وهذه الآية ظاهرة في المعنى المقصود.
ثم ذكر الله المنافقين، وأنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت، وكلما خالف حكم الله تعالى فهو باطل، وهو ظلم وليس بعدل، و أهل النفاق أهل ظلم وباطل، والله تعالى ذكر صفاتهم لكي يجتنبها المسلم، في عدة آيات من قوله: ((ألم تر إلى يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ... )) الآيات.
و ذكر الله تعالى قتل المؤمن وعقاب ذلك و وعيده، والقتل معلوم أنه منتهى الظلم للآخر.
ثم لما حدثت قصة طُعمة بن أبيرق من بني ظفر بن الحارث، لما سرق درعاً من جار له، ثم خبأها عند يهودي، ثم حلف أنه ما أخذها، وقال اليهودي: أنه دفعها إليه، فجاء قوم طعمة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسألوه أن يجادل عن صاحبهم .... إلى آخر القصة، فنزلت آيات عظيمة في الحكم بين الناس بالحق وبما علم الإنسان، وألا يكون لأهل الخيانة معينا ومدافعا عنهم، إلى آخر الآيات.
ثم ذكر الله الشرك وأنه لا يغفره والشرك ظلم عظيم كما في آية لقمان ((إن الشرك لظلم عظيم))،
وقال الله تعالى ((إن يدعون من دونه إلا إناثا)) أي ما يدعون من دون الله إلا إناثا، واختلف المفسرون في هذه الآية على أقوال يرجع بعضها إلى بعض، محصلها:
1ـ أن المعنى: إن يدعون من دون الله إلا اللات والعزى، فسماها الله إناثا لأنهم كانوا يسمونها كذلك.
2ـ أن المراد بالإناث هنا: الموات وما لا روح فيه، لأنه يؤنث، فتقول: الدراهم تنفعني، والأحجار تعجبني، ونحو ذلك.
3ـ أن المراد بالإناث هنا: الملائكة.
والقول الأول الثاني متقاربان، فهم كانوا يدعون آلهتهم التي سموها تسمية الإناث، وهي لا روح فيها وما لا روح فيه يؤنث، ولكن القول الثالث مختلف عن القولين الأولين، وابن جرير رحمه الله رجح القول الأول وقال: هو أولى التأويلات في هذا، والله تعالى أعلم.
وذكر الله تعالى قَسَم الشيطان على إغواء بني آدم، وإبليس لما ظلم نفسه بالاستكبار عن السجود لآدم، أقسم على أن يضل بنيه، بأنواع الظلم من ظلم العبد لنفسه، وظلمه لغيره.
وقال الله تعالى: ((ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا))
وهذا من عدل الله تعالى، فإنه سبحانه ليس بينه وبين أحد من خلقه نسب، بل جميع الخلق يدخل تحت هذه القاعدة العامة، من يعمل سوءا يجز به، كما قال ابن عباس وغيره: هذه الآية عامة في حق كل عامل.
فليست الأمور بالتمني، بل بالعمل الصالح، وإتباع الملة الحنيفية الصحيحة.
¥