د. عبد العزيز القارئ: أهم أمنية علمية قرآنية كنت حريصاً على تحقيقها هي " الجمع الصوتي للقراآت المتواترة " وهذا الهدف الخطير الكبير فكرت فيه أيام تقلدي لعمادة كلية القرآن الكريم بالمدينة النبوية؛ لأنني نظرت فإذا حولي بالكلية أعلام كبار من علماء القراآت: الشيخ عبد الفتاح القاضي رحمه الله، ثم جاء بعده إلى المدينة الشيخ عامر بن السيد عثمان شيخ المقارئ المصرية رحمه الله، ثم جاء الشيخ أحمد عبد العزيز الزيات رحمه الله، وعُين بمجمع المصحف، وكان يدرس بكلية القرآن ..
وأهل العلم يعرفون إمامة هؤلاء الثلاثة في مجال القراآت، وكان بالكلية أيضاً الشيخ عبد الفتاح المرصفِي رحمه الله، والشيخ الدكتور محمود سيبويه البدوي رحمه الله، والشيخ محمود جادو رحمه الله، والشيخ عبد الرافع رضوان حفظه الله وبارك في عمره، وغيرهم؛ وكان كل هؤلاء علماءَ في القراآت بمرتبة الحجية، أي كل واحد منهم حجة في هذا الفن؛ وهم يُعدُّون من أهل الطبقة الأولى في هذا العصر، وبقي من أهل هذه الطبقة الأولى بمصر الشيخ إبراهيم شحاته السَّمَنُّودِي بارك الله في عمره وأمدَّه بالصحة والعافية، فإنه من طبقة الشيخ عامر والشيخ الزيات، وفي الشام عددٌ من أئمة القراآت الكبار من أهل هذه الطبقة ..
فلما رأيت اجتماع أولئك الأئمة في القراآت في مكان واحدٍ هو المدينة النبوية؛ وأكثرهم عندي في كلية القرآن أدركت أنها فرصة لا تفوَّت لتحقيق هذا الهدف الكبير وهو "الجمع الصوتي للقراآت المتواترة"؛ وهو لو تحقق فإنه يُعدُّ بحق الجمع الرابع للقرآن؛ فإن القرآن جُمِعَ قبلَ ذلك ثلاث مرات:
أولاها: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم كُتب مفرَّقاً في العُسُب واللِّخاف والورق والرقاع وعظام الأكتاف ونحو ذلك، وثانيها: في عهد أبي بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه كُتب لأول مرةٍ بين دفتين، ثم ثالثها: في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه كُتبت من نسخة أبي بكر خمس نسخ وأرسلت إلى الأمصار ..
لكنْ لم يُفكِّر أحدٌ أنه يمكن تسجيل القرآن صوتياً؛ لأن هذا ارتبط بالتقدم "التكنولوجي" في العصر الحديث حيث تطورت أجهزة الصوتيات بشكل لم يَسْبِقْ له نظيرٌ وأصبح ممكناً تسجيل القراآت كلها صوتياً؛ وفي تسجيلِ القراآت تسجيلٌ للغات العرب ولهجاتها، فهو موضوع كبير من جميع جوانبه ..
لكنَّ مثلَ هذا المشروع الجليل الخطير يتطلب ثلاثة أمور بدونها لا يصبح ذا قيمة علمية تُذكر:
1 - توافر الإشراف العلمي الراقي: بوجود مراجع بمرتبة الحجية في القراآت كما مثلت سابقاً، يشرفون على التسجيل ويراقبونه؛ لأن القراآت أكثرها أمور صوتية دقيقة قد تخفى حتى على بعض الخواصِّ.
2 - توافر الأداء القرآني الراقي: بوجود قرَّاء ذوي أداء مُتْقَنٍ، وأصوات حسنة، وتنغيم جيد، وهذا كان متوافراً في طلاب كلية القرآن، وكان أحسن هؤلاء الذين اخترناهم للمشروع طالبٌ باكستانيٌّ، تميّزَ بفصاحة الحروف وإتقان التجويد، وجودة التنغيم، وحسن الصوت، لكن رئاسة الجامعة وقتها حرصت على ترحيله بمجرد تخرجه ففقد المشروع واحداً من أهم عناصره!!
3 - الإرادة الإدارية: فإن مثل هذا المشروع يحتاج إلى إشراف إداري، وتمويل كاف، وجهة علمية قادرة تتبنى تنفيذه، وكانت هذه الجهة موجودة وهي كلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة النبوية، وكانت الإرادة الإدارية لتنفيذ المشروع متوافرة لديها، وغير متوافرة لدى الرئاسة، مع أن رئيس الجامعة وقتها أظهر الموافقة؛ لكنه كان حريصاً على إفشال المشروع بأساليب غير مباشرة ..
وأمدَّتنا وزارة الإعلام وقتها بإنشاء "استوديو" للتسجيل في نفس الكلية، وكان لهذا التبرع السخي أثر كبير دفع المشروع إلى الأمام؛ وبدأنا نُسجل ونذيع ما نسجله في إذاعة القرآن الكريم باسم " دروس من القرآن الكريم "؛ حتى يستمع أهل العلم وأهل الاختصاص إلى ما نسجله ويشاركوننا الرأي والمشورة؛ ونجحت هذه الخطة نجاحاً باهراً ..
أخبرني أحد أهم كبار العلماء وأعيانهم وقتذاك فضيلة الشيخ عبد العزيز بن صالح إمام وخطيب المسجد النبوي ورئيس القضاة بالمدينة النبوية ـ رحمه الله ـ أنه لا تفوته حلقة من حلقات هذا البرنامج؛ وأنه يستمع إليه دائماً، وأبدى إعجابه به وبمشايخ القراآت الذين يُديرون الشرح فيه، وخاصة الشيخ محمود سيبويه وقال: حقاً إنه لسيبويه عصره.
ولما طلبت من فضيلته أن يزودنا بملحوظاته وتوجيهاته فاجأني بملحوظة دقيقة هامة عن أحد من كان يقوم بالأداء والتلاوة بين يدي المقرئ قال: فلانٌ ممن يقرأ استبعدوه لأن نغمته أعجمية هندية والقرآن عربي. واستبعدناه فعلاً.
وبعد انتهاء مدة عمادتي لكلية القرآن الكريم استمرَّ التسجيل فترة من الوقت حتى بلغوا آخر سورة المائدة أو بعدها ثم توقف المشروع ..
والآن يَعْلُو غبارُ النسيان ذلك "الاستوديو" الذي أنشأته وزارة الإعلام بالكلية، ويبدو أنه فاتت فرصةٌ ثمينة لتحقيق " الجمع الرابع للقرآن الكريم " الذي هو " الجمع الصوتي للقراآت المتواترة "؛ لأن معظم أولئك الأئمة الأعلام من علماء القراآت رحلوا إلى الآخرة ..
السؤال: هل يمكن الآن تنفيذ هذا المشروع؟
أقول: نعم يمكن، فإنه كما ذكرتُ سابقاً بقي من أئمة القراآت من أهل الطبقة الأولى بمصر الشيخ إبراهيم شحاته السَّمَنُّودِي أمدّه الله بالحصة والعافية ..
وفي الشام عددٌ من أئمة القراآت من أهل هذه الطبقة يُعدُّون في مرتبة الإمامة والحجية، أعرف منهم شيخ مقارئ دمشق الشيخ كريم راجح حفظه الله وبارك في عمره.
وهناك كثيرون من القراء الشباب من أهل الطبقة الثانية والثالثة، لكنَّ هذا المشروع لخطورته وجلالة شأنه وعِظَمِ صلته بالقرآن الكريم لا يكفي أن يباشره مثلُ هؤلاء الأفاضل؛ لا بد من الأئمة الكبار.
http://www.tafsir.net/images/fasil.gif
ختام الأجوبة بخط الدكتور عبدالعزيز القارئ
http://www.tafsir.net/images/pgareee3.jpg
http://www.tafsir.net/images/fasil.gif
ترقبوا الجزء الثاني من الأجوبة قريباً بإذن الله ....
¥