- وبعضهم يقول: بل العبرة بالأغلب، ونحن إذا نظرنا إلى واقع الروايات الواردة في هذا الأمر؛ نجد أن السور التي يقال بأنها مكية جميع آياتها مكية، أو عامة الآيات مكية، وهكذا يقال في السور المدنية، ولا يوجد سورة يقال عنها: بأنها مكية وما فيها إلا آيات قليلة مكية، والباقي كله مدني؛ وبذلك تعلم أن هذا الخلاف من الناحية الواقعية لا يترتب عليه شيء.
أمثلة على بعض الآيات التي يستثنيها العلماء بمجرد القرائن والعلامات:
المثال الأول: ما تقدم من استثنائهم قوله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى* وذكر اسم ربه فصلى) (الأعلى:14، 15) وتقدم الجواب عن ذلك.
المثال الثاني: ذكر بعضهم أن قوله تعالى في سورة الفاتحة: (وَلا الضَّالِّينَ) (الفاتحة: من الآية7) قالوا: هذه آية مدنية، بينما سورة الفاتحة مكية، وسبب ذلك أنهم قالوا: هذه الآية تكلمت عن اليهود، واليهود كانوا في المدينة. إذا فهذه الآية مدنية، ولا شك أن هذا غير صحيح.
أما ما ورد فيه النقل عن الصحابة رضي الله عنهم، فهو المعتمد المعتبر؛ فمثلاً: قوله تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ) (المائدة: من الآية3) ورد عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رضي الله عنه ـ أَنَّ رَجُلًا مِنْ الْيَهُودِ قَالَ لَهُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَءُونَهَا، لَوْ عَلَيْنَا مَعْشَرَ الْيَهُودِ نَزَلَتْ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ عِيدًا. قَالَ: أَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) قَالَ عُمَرُ: قَدْ عَرَفْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ قَائِمٌ بِعَرَفَةَ يَوْمَ جُمُعَةٍ" أخرجه البخاري (45) ومسلم (3017) فهذا نقل لنا عمر فيه مكان نزول الآية .. فهذا هو المعتبر المعتمد.
ومثال آخر:حديث عائشة السابق في نزول آية التيمم ..
أما الضوابط التي يذكرها العلماء، ويقولون: إذا رأيت سورة فيها كذا فهي كذا .. إذا رأيت كذا فهي كذا؛ كقولهم مثلا: كل سورة فيها (كلا) فهي مكية، و كل سورة فيها سجدة فهي مكية، وكل سورة في أولها حروف التهجي ـ الحروف المقطعة ـ فهي مكية إلا البقرة وآل عمران، وفي الرعد خلاف، وكل سورة فيها قصص الأنبياء والأمم السابقة فهي مكية سوى البقرة، و كل سورة فيها قصة آدم وإبليس فهي مكية سوى البقرة، ولا أدري أين ذهبت سورة الكهف (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ) (الكهف: من الآية50).
وكل سورة فيها (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) وليس فيها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فهي مكية. و كل سورة من المفصل فهي مكية.
ويقولون في المدني. كل سورة فيها الحدود والفرائض فهي مدنية، وكل سورة فيها إذن بالجهاد وبيان أحكام الجهاد فهي مدنية، وكل سورة فيها ذكر المنافقين فهي مدنية ما عدا العنكبوت.
فنقول: هذه الأشياء تحتاج إلى مراجعة وتتبع واحدة واحدة، فإن صح الاستقراء قلنا به: لأنها مسألة استقرائية، فنحتاج أن نتتبع الجزئيات التي قالوها هل هي فعلاً كذلك أولا؛ قبل أن نسلم بمثل هذا.
لكن لا يمنع ذلك أن يقال بأن المكي من القرآن له بعض السمات، وأن المدني له بعض السمات.
بعض سمات المكي والمدني:
فمثلاً: القرآن المكي يركز على: قضية الدعوة إلى التوحيد ونبذ الشرك، والرد على المشركين في شبهاتهم، وأباطيلهم في قضايا معبوداتهم وما يتعلق بها، كما يكثر فيه ذكر اليوم الآخر والأدلة على البعث وما شابه ذلك، وتجد فيه وضع الأسس العامة للتشريع، والقضايا الأخلاقية بشكل عام، وينتقد المشركين في وأد البنات، وفي بعض وما كانوا يفعلونه من عاداتهم السيئة، كذلك فيه الكثير من قصص الأنبياء والأمم السابقة وكيف فعل الله بها ودمرها، والغالب فيه أن الفواصل قصيرة كما في سورة الضحى: (وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى:1:2:3) بينما تجد القرآن المدني: فيه تقرير كثير من تفاصيل العبادات، وتفاصيل المعاملات والحدود والمواريث، وقضايا الجهاد وهكذا الصلح والعهود والمواثيق، و خطاب أهل الكتاب ومناقشتهم والرد عليهم، والكلام على
¥