تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

القراءتين بالصواب في ذلك". وربما يؤكد جزمه بالاختيار فيقول: "والقراءة التي لا أختار غيرها ... ". وبهذه الطريقة أصبح تفسير ابن جرير الطبري تفسيرًا علميًّا يغلب فيه جانب الأنظار غلبة واضحة على جانب الآثار، حتى أنه لو اقْتُصِر فيه على مجرد عَزْو الأقوال المتخالفة لأربابها، وجُرِّد عن طويل الأسانيد ومكرَّرها لبقي وافيًا تمام الوفاء بما يقصد له من كشف عن دقائق المعاني القرآنية وما يستخرج منها من الحِكم والأحكام على اختلاف المذاهب والآراء وما يتصل بها من استعمالات اللغة ومسائل العربية، ولازداد شبهه بالتفاسير العلمية التي جاءت من بَعْدُ قوةً ووضوحًا، فلذلك يصح أن تعتبره تحولاً في منهج التفسير ذا أثر بعيد قطع به التفسير ما كان يربطه إلى علم الحديث من تبعية ملتزمة. بل إنه جعل العنصر الذي كان علم الحديث يسيطر به على التفسير أقل عناصر التفسير أهمية، وذلك هو عنصر تفسير المبهمات ومعرفة أسباب النزول، وجعل العنصر الذي لا غنى للتفسير فيه عن النقل، وهو عنصر بيان الأحكام معتمدًا على فتاوى الفقهاء، معتضدًا بمعاقد الإجماع. وإن الذين يعتبرون تفسير الطبري تفسيرًا أثريًّا أو من صنف التفسير بالمأثور إنما يقتصرون على النظر إلى ظاهره بما فيه من كثرة الحديث والإسناد، ولا يتدبرون في طريقته وغايته التي يصرح بها من إيراد تلك الأسانيد المصنَّفة المرتَّبة الممحَّصة".

وقد تناولت تفسير الطبرى على نحو شديد التفصيل على مدى عشرات الصفحات فى الفصل الأول من كتابى: "من الطبرى إلى سيد قطب"، وبينت الجهد الهائل الذى نهض به هذا المفسر العظيم. ومنه يتضح أن عمله فى ذلك الميدان ليس مجرد جمع للآثار الواردة عن الرسول والصحابة والتابعين وتابعيهم، بل رفد هذا كلَّه عنده رأىٌ، ورأىٌ كثير. فالرأى إذن هو أمر لا يمكن الاستغناء عنه بتاتا فى ميدان التأليف من التفسير القرآنى، اللهم إلا إذا ألغى الإنسان عقله بل وجوده ذاته وأتى إلى كتاب من كتب التفسير يجده أمامه بالمصادفة فنقله كما هو. ومَنْ مِنَ العقلاء يفعل ذلك؟ بل إن الصحابة والتابعين كانوا هم أنفسهم يُعْمِلون عقولهم ويُدْلُون بآرائهم، وإلا فلماذا كان هناك اختلاف بينهم فى فهم القرآن أحيانا؟ لو كان هناك طريق واحد على المسلم أن يسلكه فى تفسير كتاب الله لكان الصحابة أولى الناس وأولهم بسلوك هذا الطريق والتزام جادّته لا يتحولون عنها. إذن لا غِنَى فى تفسير القرآن عن استعمال الرأى، على أن يكون إعمال العقل مبنيا على توفر العلم الواسع العميق والأدوات التى من شأنها أن تعين على بلوغ الغاية فى هذا المجال، مع اتباع الأسلوب المنهجى السليم والرغبة فى الوصول إلى برد اليقين وإفراغ الوسع كله فى البحث والتقصى والاجتهاد.

فإذا عدنا إلى الأحاديث الثلاثة التى مرت آنفا ونظرنا، فى ضوء الحديثين الثانى والثالث منها، إلى الحديث الذى يتحدث عن الرأى ويُفْهَم منه كراهيتُه صلى الله عليه وسلم له، تبين لنا فى الحال أن المقصود هو أن يدلى الإنسان برأيه فى تفسير كتاب الله على سبيل التقحم والاعتساف والهجوم غير المدروس، أى دون أن يستعين بما يعنيه على هذا الفهم. ذلك أن لكل شىء بابا يولَج من خلاله إليه، أما القفز على أى موضوع فى الحال من غير الاستعداد لمواجهته بالوسائل والأدوات التى تعين عليه فهو مزلق عظيم من مزالق الخطر والفساد. وعلى هذا فلو افترضنا أن ثمة شخصا جاهلا فى موضوع ما أدلى برأيه فى مسألة من المسائل المتعلقة بذلك الموضوع ثم تصادف أن جاء رأيه صحيحا، فإن هذا لا ينبغى أن يتخذ تكأة لتسويغ مثل ذلك التجرؤ على الرأى. إن المبدأ لا ينخرم لأن حالة شاذة قائمة على المصادفة المحضة قد كسرته مرةً أو يمكن أن تكسره. والإسلام لا يقيم أموره على المصادفات والاقتحامات العمياء، بل على الدراسة واتخاذ الضوابط التى من شأنها إنجاح العمل. والدنيا قائمة على نظام محكم يتمثل فى قوانين الكون التى نعرفها، أما التصرف على أساس أن الإسلام يشذ عن ذلك النظام وتلك القوانين ويؤسس للجرأة القائمة على غير أساس سوى أساس التشبث بأن حالة من الحالات الشاذة قد صحت أو يمكن أن تصح ذات يوم فأمر غير مقبول بالمرة!

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير