تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

إذن لا مناص من استعمال الرأى، بيد أنه لا بد له من ضوابط كما شرحنا. وإن الأمر كما ذكر د. مساعد فى بحثه المنشور على المشباك حول "التفسير بالرأى: مفهومه، حكمه، أنواعه"، إذ قال إن "الرأي في التفسير نوعان: محمود، ومذموم"، و"إنما يُحْمَد الرأي إذا كان مستندا إلى علم يقي صاحبه الوقوع في الخطأ"، أما التفسير المذموم من هذا النوع فهو "القول في القرآن بغير علم، سواء أكان عن جهلٍ أو قصورٍ في العلم أم كان عن هوى يدفع صاحبه إلى مخالفة الحق". ومن ذلك إقدام المفسر على ما لا يعلمه إلا الله، أو مناقضته لما ورد عن النبى يقينا من تفسير، أو اعتماده على اللغة وحدها دون سائر ما تحتاج إليه تلك المهمة الجليلة من أدوات علمية مساعدة، أو الدخول على القرآن بهوى مسبَّق يتأوله عليه حسبما ذكر الكاتب.

ومثالا على الطريقة المرفوضة فى التفسير بالرأى أذكر أنه، منذ نحو عشرين سنة (سنة 1996م على وجه التحديد)، صدر كتاب للأستاذ جمال البنا عنوانه: "نحو فقه جديد (1): منطلقات ومفاهيم- فهم الخطاب القرآنى"، دعا فيه إلى الدخول على القرآن والتعامل معه دون الاستعانة على ذلك بأى شىء آخر، إذ يكفى عنده أن يقرأ الإنسان القرآن لكى يفهمه. وهذه بعض عباراته فى هذا الصدد. ففى الفصل السابع من الكتاب، وهو الفصل المسمَّى: "فهم الخطاب القرآنى كما يجب أن يكون" نقرأ أنه "لكى نقترب من تلك المعايشة (للقرآن) علينا أن نكشط كل الغشاوات التى توالت عبر القرون، وأن نعود إلى القرآنِ نفسِه، والقرآنِ وحدَه، وأن نُلِمّ بمفاتيح فهم القرآن التى ألمّ بها الصحابة بطريقة تلقائية وعفوية" (جمال البنا/ نحو فقه جديد (1): منطلقات ومفاهيم- فهم الخطاب القرآنى/ دار الفكر الإسلامى/ 1996م/ 152). وفى خاتمة الكتاب نقرأ أيضا "أنه ما دام القرآن يملك وحده قوة التاثير المطلوبة فإن كل التفاسير التى وُضِعَتْ فى عهود لاحقة هى مما لا داعى له، بل يمكن أن تفتات على نقاء وخلوص رؤية القرآن نفسه أو المضمون القرآنى" (المرجع السابق/ 197). ذلك أن التفاسير قد "أصحبت غابة كثيفة حجبت القرآن تماما وأحلت محله هذا الغثاء الذى يقوم على الإسرائيليات والأحاديث الموضوعة والاجتهادات المتأثرة بروح العصر وضروراته" (السابق/ 104). وقد جال الكاتب مع عدد من كتب التفسير من مختلف العصور بما فيها العصر الحديث، فانتهى فى آخر المطاف إلى القول بأنه "لا يتسع المجال لضرب أمثلة على عجز المفسرين القدامى والمحدثين عن تفهم جوهر القرآن للوصول إلى تفسير ألفاظه" (السابق/ 121). كذلك يرفض الاستعانة فى تفسير القرآن بمعرفة تاريخ نزول آياته وسوره، وهو ما يعنى أنه يَضْرِب صَفْحًا عن علم "أسباب النزول"، وهو العلم الذى يختص بتوضيح السياق التاريخى والاجتماعى والنفسى للنص القرآنى، وهو رفضٌ يُوقِفنا وجهًا لوجهٍ أمام المجهول. بل إنه ليشكك فى صحة معظم ما ورد فى هذا الباب (السابق/ 102 - 103، 121). ومع ذلك نراه يعود فيذكر أنه ما من منهج واحد يستطيع التصدى لتفسير القرآن، سواء كان هو المنهج اللغوى أو المنهج العلمى أو النفسى أو الفنى. لكنه يرجع كرة أخرى مؤكدًا أن "الموقف الأمثل أن نتعلم من القرآن لا أن نفتات عليه ولا أن نحاول أن نفككه كما يفك الساعاتى ساعة، والميكانيكى آلة" (ص 199). ليس ذلك فقط، بل إنه ليزعم أن "الرسول صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن، ونهى عن كتابة حديثه، بل أمر من كان يكتب بأن يمحوه" (ص 101).

وهذا كله كلام غريب لا يستند إلى شىء، إذ ثبت أن الرسول قد ترك لنا تراثا تفسيريا، وإن لم يغطّ القرآن كله ولا كان تفسيرا مفصلا كما قلنا. كذلك ليس من المعقول ولا من المقبول أن يقوم أحد بمنتهى البساطة بكشط قاعدة المعلومات والآراء المتوفرة فى ميدان من ميادين المعرفة، تلك القاعدة التى أنجزتها جهود الأسلاف الجبارة العملاقة، زاعما أنه ينظف الطريق حتى يكون المشى فيه أسهل. ولو اتبع أصحاب كل تخصص هذا المنهج العجيب لارتدّت البشرية للتوّ إلى فجر التاريخ الإنسانى حين لم يكن فى عقل الإنسان أية أثارة من علم أو تجربة معرفية. إن العقل فى هذه الحالة ليشبه رَحًا تدور على الفاضى دون أن يكون هناك حَبٌّ تطحنه، فلا يبقى أمامها إلا أن يظل أحد شِقَّيْها يحتك بالآخر فى إزعاج مستمر وبلا أى طحين، وهو ما يعبر عنه

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير