وقد عاشت عقيدة التوحيد بعد المسيح - عليه السلام - في تلامذته وفي أتباعهم. وأحد الأناجيل الكثيرة التي كتبت - وهو إنجيل برنابا - يتحدث عن عيسى - عليه السلام - بوصفه رسولا من عند الله. ثم وقعت بينهم الاختلافات. فمن قائل: إن المسيح رسول من عند الله كسائر الرسل. ومن قائل: إنه رسول نعم ولكن له بالله صلة خاصة. ومن قائل: إنه ابن الله لأنه خلق من غير أب , ولكنه على هذا مخلوق لله. ومن قائل: إنه ابن الله وليس مخلوقا بل له صفة القدم كالأب. .
ولتصفية هذه الخلافات اجتمع في عام 325 ميلادية "مجمع نيقية " الذي اجتمع فيه ثمانية وأربعون ألفا من البطارقة والأساقفة. قال عنهم ابن البطريق أحد مؤرخي النصرانية:
"وكانوا مختلفين في الآراء والأديان. فمنهم من كان يقول: إن المسيح وأمه إلهان من دون الله. وهم "البربرانية ". . ويسمون:"الريمتيين". ومنهم من كان يقول: إن المسيح من الأب بمنزلة شعلة نار انفصلت من شعلة نار , فلم تنقص الأولى بانفصال الثانية منها. وهي مقالة "سابليوس" وشيعته. ومنهم من كان يقول: لم تحبل به مريم تسعة أشهر , وإنما مر في بطنها كما يمر الماء في الميزاب , لأن الكلمة دخلت في أذنها , وخرجت من حيث يخرج الولد من ساعتها. وهي مقالة "إليان" وأشياعه. ومنهم من كان يقول: إن المسيح إنسان خلق من اللاهوت كواحد منا في جوهره , وإن ابتداء الابن من مريم , وإنه اصطفي ليكون مخلصا للجوهر الإنسي , صحبته النعمة الإلهية , وحلت فيه بالمحبة والمشيئة , ولذلك سمي "ابن الله" ويقولون: إن الله جوهر قديم واحد , وأقنوم واحد , ويسمونه بثلاثة أسماء , ولا يؤمنون بالكلمة , ولا بروح القدس. وهي مقالة "بولس الشمشاطي" بطريرك أنطاكية وأشياعه وهم "البوليقانيون". ومنهم من كان يقول: إنهم ثلاثة آلهة لم تزل: صالح , وطالح , وعدل بينهما. وهي مقالة "مرقيون" اللعين وأصحابه! وزعموا أن "مرقيون" هو رئيس الحواريين وأنكروا "بطرس". ومنهم من كانوا يقولون بألوهية المسيح. وهي مقالة "بولس الرسول" ومقالة الثلاثمائة وثمانية عشر أسقفا. .
وقد اختار الإمبراطور الروماني "قسطنطين" الذي كان قد دخل في النصرانية من الوثنية ولم يكن يدري شيئا من النصرانية! هذا الرأي الأخير وسلط أصحابه على مخالفيهم , وشرد أصحاب سائر المذاهب ; وبخاصة القائلين بألوهية الأب وحده , وناسوتية المسيح.
وقد ذكر صاحب كتاب تاريخ الأمة القبطية عن هذا القرار ما نصه:
"إن الجامعة المقدسة والكنيسة الرسولية تحرم كل قائل بوجود زمن لم يكن ابن الله موجودا فيه. وأنه لم يوجد قبل أن يولد. وأنه وجد من لا شيء. أو من يقول: إن الابن وجد من مادة أو جوهر غير جوهر الله الآب. وكل من يؤمن أنه خلق , أو من يقول: إنه قابل للتغيير , ويعتريه ظل دوران".
ولكن هذا المجمع بقرارته لم يقض على نحلة الموحدين أتباع "آريوس" وقد غلبت على القسطنطينية , وأنطاكية , وبابل , والإسكندرية , ومصر.
ثم سار خلاف جديد حول "روح القدس" فقال بعضهم: هو إله , وقال آخرون: ليس بإله! فاجتمع "مجمع القسطنطينية الأول" سنة 381 ليحسم الخلاف في هذا الأمر.
وقد نقل ابن البطريق ما تقرر في هذا المجمع , بناء على مقالة أسقف الإسكندرية:
"قال ثيموثاوس بطريك الإسكندرية: ليس روح القدس عندنا بمعنى غير روح الله. وليس روح الله شيئا غير حياته. فإذا قلنا إن روح القدس مخلوق , فقد قلنا: إن روح الله مخلوق. وإذا قلنا: إن روح الله مخلوق , فقد قلنا: إن حياته مخلوقة. وإذا قلنا: إن حياته مخلوقة , فقد زعمنا أنه غير حي. وإذا زعمنا أنه غير حي فقد كفرنا به. ومن كفر به وجب عليه اللعن"!!!
وكذلك تقررت ألوهية روح القدس في هذا المجمع , كما تقررت ألوهية المسيح في مجمع نيقية. وتم "الثالوث" من الآب. والابن. وروح القدس. .
ثم ثار خلاف آخر حول اجتماع طبيعة المسيح الإلهية وطبيعته الإنسانية. . أو اللاهوت والناسوت كما يقولون. . فقد رأى "نسطور" بطريرك القسطنطينية أن هناك أقنوما وطبيعة. فأقنوم الألوهية من الآب وتنسب إليه ; وطبيعة الإنسان وقد ولدت من مريم , فمريم أم الإنسان - في المسيح - وليست أم الإله! ويقول في المسيح الذي ظهر بين الناس وخاطبهم - كما نقله عنه ابن البطريق:
"إن هذا الإنسان الذي يقول: إنه المسيح. . بالمحبة متحد مع الابن. . ويقال: إنه الله وابن الله , ليس بالحقيقة ولكن بالموهبة ". .
ثم يقول:"إن نسطور ذهب إلى أن ربنا يسوع المسيح لم يكن إلها في حد ذاته بل هو إنسان مملوء من البركة والنعمة , أو هو ملهم من الله , فلم يرتكب خطيئة , وما أتى أمرا إدًا
وخالفه في هذا الرآي أسقف رومه , وبطريرك الإسكندرية , وأساقفة أنطاكية , فاتفقوا على عقد مجمع رابع. وانعقد "مجمع أفسس" سنة 431 ميلادية. وقرر هذا المجمع - كما يقول ابن البطريق -:
"أن مريم العذراء والدة الله. وأن المسيح إله حق وإنسان , معروف بطبيعتين , متوحد في الأقنوم". . ولعنوا نسطور!
ثم خرجت كنيسة الإسكندرية برأي جديد , انعقد له "مجمع أفسس الثاني" وقرر:
"أن المسيح طبيعة واحدة , اجتمع فيها اللاهوت بالناسوت".
ولكن هذا الرأي لم يسلم ; واستمرت الخلافات الحادة ; فاجتمع مجمع "خلقيدونية " سنة 451 وقرر:
"أن المسيح له طبيعتان لا طبيعة واحدة. وأن اللاهوت طبيعة وحدها , والناسوت طبيعه وحدها , التقتا في المسيح". . ولعنوا مجمع أفسس الثاني!
ولم يعترف المصريون بقرار هذا المجمع. ووقعت بين المذهب المصري "المنوفيسية " والمذهب "الملوكاني الذي تبنته الدولة الإمبراطورية ما وقع من الخلافات الدامية ...