تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

المخالفة لكان أبعد عن الاستهزاء واستحقاق المقت، ولذلك قال يوسف ابن أسباط: إني لأهمُّ بقراءة القرآن فإذا ذكرت ما فيه خشيت المقت فاعدل إلى التسبيح والاستغفار.

والمعرض عن العمل به أريد بقوله عز وجل: {فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون} ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اقرءوا القرآن ما ائتلفت عليه قلوبكم فإذا اختلفتم فلستم تقرءونه- وفي بعض الروايات- فإذا اختلفتم فقوموا عنه" متفق عليه، قال تعالى: {الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلى ربهم يتوكلون}، وفي الحديث: "إن أحسن الناس صوتًا بالقرآن إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله تعالى" وقال بعض القراء: قرأت القرآن على شيخ لي ثم رجعت لأقرأ ثانيًا فانتهرني وقال: جعلت القرآن عليّ عملاً اذهب فاقرأ على الله عز وجل، فانظر بماذا يأمرك وبماذا ينهاك.

فأما مجرد حركة اللسان فقليل الجدوى، بل التالي باللسان المعرض عن العمل جدير بأن يكون هو المراد بقوله تعالى: {ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى} وبقوله عز وجل: {كذلك أتتك آيتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} أي تركتها ولم تنظر إليها ولم تعبأ بها فإن المقصر في الأمر يقال إنه نسي الأمر، وتلاوة القرآن حق تلاوته هو أن يشترك فيه اللسان والعقل والقلب، فحظ اللسان تصحيح الحروف بالترتيل وحظ العقل تفسير المعاني وحظ القلب الاتعاظ والتأثر بالانزجار والائتمار، فاللسان يرتل والعقل يترجم والقلب يتعظ.

التاسع: الترقي: وأعني به أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه، فدرجات القرآن ثلاث، أدناها: أن يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفًا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه، فيكون حاله عند هذا التقدير: السؤال والتملق والتضرع والابتهال، الثانية: أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ويخاطبه بألطافه ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم، الثالثة: أن يرى في الكلام المتكلم وفي الكلمات الصفات فلا ينظر إلى نفسه ولا إلى قراءته ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه بل يكون مقصور الهم على المتكلم موقوف الفكر عليه كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره. وهذه درجة المقربين وما قبله درجة أصحاب اليمين وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين.

العاشر: التبري: وأعني به أن يتبرأ من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بعين الرضا والتزكية، فإذا تلا بآيات الوعيد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك، بل يشهد الموقنين والصديقين فيها، ويتشوق إلى أن يلحقه الله عز وجل بهم، وإذا تلا آيات المقت وذم العصاة والمقصّرين شهد على نفسه هناك، وقدّر أنه المخاطب خوفًا وإشفاقًا.

ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: "اللهم إني استغفرك لظلمي وكفري، فقيل له: هذا الظلم فما بال الكفر، فتلا قوله عز وجل: {إن الإنسان لظلوم كفار} وقيل ليوسف ابن أسباط: إذا قرأت القرآن بماذا تدعو؟ فقال: استغفر الله عز وجل من تقصيري سبعين مرة، فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه، فإن من شهد العبد في القرب لُطف به في الخوف حتى يسوقه الخوف إلى درجة أخرى في القرب وراءها، ومن شهد القرب في البعد مُكِر به في الأمن الذي يفضه إلى درجة أخرى في البعد أسفل مما هو فيه.

ومهما كان مشاهدًا نفسه يعين الرضا صار محجوبًا بنفسه عن الله. وكان الشافعي يقول:

أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعة

وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعة

وكان يقول أيضًا رحمه الله:

فعين الرضا عن كل عيب كليلةٌ كما أن عين السخط تبدي المساويا

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير