وفي صباح اليوم التالي التقى الجيشان بسهل عقرباء وقال شرحبيل بن مسيلمة: (يا بني حنيفة قاتلوا فإن اليوم يوم الغيرة فإن انهزمتم تستردف النساء سبيات وينكحن غير خطيبات. فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم) فاقتتلوا بعقرباء.
وكانت راية المهاجرين مع سالم مولى أبي حنيفة.
وكانت مع عبد اللّه بن حفص بن غانم فقتل فقالوا لسالم (نخشى عليك من نفسك) فقال (بئس حامل القرآن أنا إذا).
وكانت راية الأنصار مع ثابت بن قيس بن شماس وكان أول من لقي المسلمين نَهَار الرَّجَّال بن عُنْفُوَة)، فقتله زيد بن الخطاب واشتد القتال ولم يلق المسلمون حربا مثلها قط وانهزم المسلمون وخلص بنو حنيفة إلى مجاعة وإلى خالد فزال خالد عن الفسطاط ودخلوا مجاعة وهو عند زوجة خالد يحرسها فأرادوا قتلها فنهاهم مجاعة عن قتلها وقال (أنا لها جار) فتركوها، وقال لهم (عليكم بالرجال) فقطعوا الفسطاط وحاق الخطر بالمسلمين في هذه الساعة وأخذ بعضهم يحث على القتال ويستفز الهمم. فقال ثابت بن قيس:
(بئس ما عودتم أنفسكم يا معشر المسلمين. اللّهم إني أبرأ إليك مما يصنع هؤلاء - يعني أهل اليمامة - وأعتذر إليك مما يصنع هؤلاء - يعني المسلمين ثم قاتل حتى قتل.
وقال زيد بن الخطاب:
(لا تحوز بعد الرجال. واللّه لا أتكلم اليوم حتى نهزمهم، أو أقتل فأكلمه بحجتي. غضوا أبصاركم. وعضوا على أضراسكم أيها الناس واضربوا في عدوكم وامضوا قدما).
وقال أبو حذيفة:
(يا أهل القرآن زينوا القرآن بالفعال).
وقد كانت لهذه الكلمات الحماسية أثرها في النفوس فحمل خالد في الناس حتى ردهم إلى أبعد مما كانوا واشتد القتال وقاتل العدو قتال المستميت. وكانت الحرب يومئذ تارة للمسلمين، وتارة ابني حنيفة. وقتل سالم وأبو حذيفة وزيد بن الخطاب وغيرهم من كبار المسلمين.
ولما رأى خالد ما الناس فيه واختلاط جيشه، أراد أن يميزهم لتدب فيهم روح الغيرة فقال:
(امتازوا أيها الناس لنعلم بلاء كل حي ولنعلم من أين نؤتى).
وكان أهل البوادي قد جنبوا المهاجرين والأنصار، وجنبهم المهاجرين والأنصار. فلما امتازوا قال بعضهم لبعض (اليوم يستحى من الفرار) فما رئي يوم أعظم نكاية، غير أن القتل كان في المهاجرين والأنصار وأهل القرى أكثر منه في البوادي.
وثبت مسيلمة فدارت رحاهم عليه، وأدرك خالد أن الحالة لا تهدأ إلا إذا قتل مسيلمة فحمل عليهم ودعا إلى البراز ونادى بشعار المسلمين يومئذ وكان (يا محمداه) فلم يبرز إليه أحد إلا قتله، وحمل على مسيلمة ففر وفر أصحابه، وصاح خالد في الناس فهجموا عليهم فكانت الهزيمة، ونادى المحكم بن الطفيل وهو أحد قواد بني حنيفة المشهورين (يا بني حنيفة الحديقة. الحديقة) ثم رماه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق بسهم فوضعه في نحره فقتله. وكان ممن دخل الحديقة مسيلمة. وقال البراء بن مالك (يا معشر المسلمين ألقوني عليهم في الحديقة) فتردد المسلمون خوفا عليه. ثم احتملوه فألقوه. فلما أشرف على الحديقة من الجدار اقتحم فقاتلهم عن باب الحديقة التي كانت مغلقة حتى فتحها للمسلمين فاندفع المسلمون إليها كالسيل الجارف، فأغلق الباب عليهم بعد دخولهم جميعا، ورمى بالمفتاح من وراء الجدار حتى لا يتمكن أحد من الخروج فاقتتلوا قتالا شديدا وقتل مسيلمة. قتله وحشي مولى جبير بن مطعم ورجل من الأنصار كلاهما قد أصابه. ووحشي هذا هو قاتل حمزة كما تقدم في السيرة النبوية. فولت بنو حنيفة عند قتله منهزمة وأخذهم السيف من كل جانب حتى قتلوا عن آخرهم وأخبر خالد بقتل مسيلمة فخرج بمجاعة يرسف في الحديد ليدله على مسيلمة وأخذ يكشف له عن جثث القتلى حتى عثر عليه. فقال مجاعة لخالد (ما جاءك إلا سرعان الناس) وإن جماهير الناس لفي الحصون). فقال ويلك ما تقول؟ قال هو واللّه الحق فهلم لأصالحك عن قومي، وكان خالد نهكته الحرب وأصيب معه من أشراف الناس من أصيب فقد رق وأحب الدعة والصلح. ثم قال مجاعة: (أنطلق إليهم فأشاورهم وننظر في هذا الأمر فأرجع إليك) فانطلق ودخل الحصون، وليس فيها إلا النساء والصبيان، ومشيخة فانية ورجال ضعفى فظاهر الحديد على النساء وأمرهن أن ينشرن شعورهن وأن يشرفن على رؤوس الحصون حتى يرجع إليهم ثم رجع فأتى فقال: قد أبوا ما صالحتك عليه وقد أشرف لك بعضهم نقضا علي وهم مني براء - فنظر خالد إلى رؤوس الحصون وقد اسودت - ولكن إن شئت صنعت شيئا فعزمت على القوم. قال ما هو؟ قال تأخذ مني ربع السبي وتدع ربعا. فقال قد فعلت. قال: قد صالحتك. فلما فرغ فتحت الحصون فإذا ليس فبها إلا النساء والصبيان والشيوخ فقال خالد لمجاعة: ويحك! خدعتني. قال: قومي ولم أستطع إلا ما صنعت.
وقيل صالحه خالد على الذهب والفضة والسلاح ونصف السبي ولما عرض هذا الصلح عارض قوم من بني حنيفة، ومنهم سلمة بن عمير الحنفي فإنه أبى إلا الحرب وتجنيد أهل القرى والعبيد غير أن مجاعة أصر على الصلح وكتب خالد كتاب الصلح وهذا نصه:
(هذا ما قاضى عليه خالد بن الوليد مجاعة بن مرارة وسلمة بن عمير وفلانا وفلانا: قاضاهم على الصفراء، والبيضاء ونصف السبي والحلقة والكراع وحائط من كل قرية ومزرعة على أن يسلموا ثم أنتم آمنون بأمان اللّه ولكم ذمة خالد بن الوليد، وذمة أبي بكر خليفة رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وذمم المسلمين على الوفاء).
ثم وصل كتاب أبي بكر إلى خالد أن يقتل كل محتلم لكنه وصل متأخرا لأن خالدا كان قد صالحهم فوفى لهم ولم يغدر، والذي أوصل كتاب أبي بكر هو سلمة بن سلامة بن وقش.
وحشرت بنو حنيفة إلى البيعة والبراءة مما كانوا عليه إلى خالد، وخالد في عسكره.
من كتاب سيرة ابي بكر لمحمد رضا
المصدر الشبكي:
http://www.kl28.com/knol/?p=view&post=31116
¥