تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

[بين التنزيل والتأويل: نموذج المحاسبي في كتابيه العقل وفهم القرآن]

ـ[عبدالرحمن الشهري]ــــــــ[15 Apr 2010, 12:56 م]ـ

للدكتور رضوان السيد

عرفتُ الحارثَ بنَ أسد المحاسبي (-243هـ/857 م) عام 1970. كنت قد تخرّجتُ حديثاً في الأزهر، وعدتُ للعمل في دار الفتوى في لبنان، إعداداً لإكمال دراساتي العليا في ألمانيا. وقتَها كان البروفسور جوزف فان أس - الذي صار مُشرفاً في ما بعد على أُطروحتي للدكتوراه - قد نصح المرحوم الأستاذ حسين القوتلي، مدير دار الإفتاء في لبنان، والمدرّس في الجامعة اللبنانية؛ وبتوسُّط من الراحل الأب الدكتور فريد جبر، أن يُحضّر أُطروحةً للدكتوراه عن المخطوطات الباقية للمحاسبي. والمخطوطات المُحاسبية كان قد درسها كُلٌّ من الشيخ الدكتور عبدالحليم محمود الذي حضّر أُطروحةً للدكتوراه عنه في السوربون بإشراف ماسينيون عام 1946، والأستاذ فان أس الذي حضّر أُطروحةً للدكتوراه الأولى عن المحاسبي أيضاً عام 1961. وكلا الرجلين ركّز على كتاب المحاسبي: «الرعاية لحقوق الله»، والمواريث التي تركها للصوفية من بعد من خلال هذا الكتاب. وأحسَّ فان أس أكثر من الشيخ عبدالحليم محمود، أنّ المحاسبيَّ هو أكثرُ من متصوف وإن يكن رائداً في هذا المجال أيضاً. وقد بدا ذلك في عمل فان أس، الذي ترجم في أُطروحته فقراتٍ كثيرةً من رسائل المحاسبي غير المطبوعة. والمُهمُّ أنني ساعدْتُ الأستاذ القوتلي في قراءة مخطوطتي المحاسبي: «مائية العقل وحقيقة معناه واختلاف الناس فيه»، وكتابه الآخر الأكبر حجماً: «فهم القرآن». وقد أضاف الأستاذ القوتلي إلى عملَي عبدالحليم محمود وجوزف فان أس، في فهم المحاسبي، الاهتمامَ ببعدين آخرين من أبعاد التجربة الفكرية لذلك الزاهد المتميّز وهما: خلافُهُ مع الإمام أحمد بن حنبل (-241هـ/ 855 م) وأسبابُهُ، وكونه الطليعة لما صار يُعرف من بعد بالسنّية الأشعرية. وعندما عدتُ من ألمانيا عام 1977، عدتُ لأسبابٍ مختلفةٍ للاهتمام بالمحاسبي، فانجلى الأمر عندي عن بُعدٍ رابعٍ لتفكير المحاسبي؛ الأول التصوف، والثاني، الاختلاف مع المحدِّثين، والثالث، ريادتُهُ الكلامية في مواجهة المعتزلة. والبُعْدُ الرابعُ هو خلافُهُ مع مُعاصرة الفيلسوف الكندي (-252هـ/866م) في مفهوم العقل. فالكندي يعتبرُهُ مبدأً أول بالقوة، وجوهراً بسيطاً مدركاً للأشياء بحقائقها، والمحاسبي يعتبرُهُ غريزةً أو نوراً للغريزة يقوى ويزيدُ بالتجارب والعلم والحِلم. وما تنبَّهتُ وقتَها، أي بين العامين 1978 و1985 للبُعد الخامس أو الأساس المنهجي الجديد للمحاسبي بين التنزيل والتأويل. وقد تبيَّنَ لي في تسعينات القرن الماضي أنّ المحاسبيَّ إنما رسم منهجاً في رسالته «مائية العقل»، ما لبث أن طبَّقَه في «فهم القرآن» الذي تتراوحُ موضوعاتُهُ بين أربعة علوم: أصول الدين، والتفسير، وأُصول الفقه، والفروع الفقهية.

ما هي الأجواءُ الفكرية التي عاصرها المحاسبي بين العام 200هـ، وحتى وفاته عام 243هـ؟ يتبينُ من مؤلَّفات المحاسبي المختلفة، وبخاصةٍ كتابه في «المكاسب» ومائية العقل، وفهم القرآن، أنَّ الموادّ التي يستخدمُها سواءٌ في الرواية أو الدراية أو علم الكلام أو الفقه أو التفسير تنتمي إلى أربع بيئات: بيئة أهل الحديث، وبيئات المعتزلة، وبيئة اللُّغويين، الذين مارسوا التفسير القرآني، وبيئة الفقهاء. وتتخلَّلُ ذلك كُلَّه نزعةٌ زُهديةٌ غلاّبة وغير عرفانية. لكنّ منظومتَه الفكرية لا تنتمي إلى أيٍّ من هذه البيئات؛ بل إنّ الأمر يقتصرُ على استعارة موادّ البناء دون الهندسة والتشكيل. والعبارةُ المفتاحيةُ التي تتكررُ في كلّ كتبه: «العقل عن الله». واستناداً إلى هذه العبارة أعدْتُ النظر في منظومة المحاسبي الفكرية. ولنستعرضْ بشيء من التقصي ما أقصدُهُ بالمنظومة الجديدة التي توصَّل الرجلُ إليها، وما حظيت بإعجاب الكثير من مُعاصريه، وإن يكن الإعجابُ بشخصه ومسلكه، ظلَّ كبيراً وجليلاً.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير