تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

لكنْ ما معنى «التأويل» إذاً لدى المحاسبي؟ استخدم المحاسبيُّ في عملياته التأويلية الموادّ التي جمعها أبو عُبيد في «الناسخ والمنسوخ». واستخدم أقلّ المادّة التي عرضها أبو عُبيدة (-209هـ) في كتابه: «المجاز في القرآن». وأبو عُبيد – كما سبق القول - يتبع أُسلوب الشافعي البياني في تمييز النصوص، وربْطها بمصادر التشريع. وهكذا فإنّ الشافعيَّ وأبا عُبيد، وعلى رغم اعتمادهما على البيان وأسالييه؛ إنما كانا تنزيليَّين، أي أنهما مهتمان بالدرجة الأُولى بتنزيل النصوص على الوقائع أو تزمينها. وهنا – وعلى رغم الموادّ المُستعارة من أبي عُبيد وكثافتها - فإنّ المحاسبيَّ يذهبُ بالتأمُّل الأول للنصّ باتِّجاه مجاز أبي عُبيدة، وباتّجاه المفسِّرين الأوائل وليس المتكلمين أو الفقهاء. وهكذا فهو لا يختلفُ عنهما في اعتبار البيان؛ بل في منهج تحصيل الحكم. ومنهجُ تحصيل الحكم في العقيدة والفقه عنده يقومُ على تأويل النصّ في ضوء تجربة الجماعة المتلقية، وفي ضوء العقل الذي يزيدُهُ العلمُ، وتزيدُهُ التجاربُ – كما يقول - فطنةً وحكمةً في العملية التي يسمّيها: العقل عن الله؛ إنما بعد تلقّي الجماعة له وعيشها فيه، وعيشه فيها، فالشافعيُّ وأبو عُبيد تنظيريان، أي أنهما يرميان الى التقعيد باعتبارهما المتلقّيين المباشِرَين للنصّ؛ فالعلماءُ ورثة الأنبياء. أمّا المحاسبيُّ فهو تجريبيٌّ اجتهاديٌّ في التعامُل مع النصّ العقدي والفروعي أو الفقهي، ويريد فهم النصّ لكنْ في ضوء الإجماع. فلنتأمَّلْ الأمثلة التي يذكُرُها لمعنى «العقل عن الله»، عسى أن يُفيدنا ذلك في التعرُّف على ماذا يريدُهُ من وراء التأويل أو العقل عن الله من طريق التأويل. ففي قوله تعالى: «ولا تجهر بصلاتك ولا تُخافِتْ بها ... »، اختلف العلماء: «والأمة مجمعةٌ - كما يقول المحاسبي - أنّ للمصلّي أن يرفع صوته وأن يُخافِتَه». وفي قوله تعالى: «وآتيتُم إحداهنّ قِنْطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً» (سورة النساء:20)، اختلف العلماء أيضاً، وقال بعضُهم بالنَسْخ. والمحاسبي يرى الإحكامَ، واتّباعَ المصلحة في الحالة المعينة ... وهكذا يمضي معدِّداً عشرات الحالات التي اختلف فيها الصحابة والتابعون، ثم أجمعت الأمةُ على شيء مخلتفٍ أو ذهب هو إلى ما يُخالف الأقوالَ السابقة. ولذا فالذي يمكن قوله إنّ للتأويل عنده ثلاثة أُسُس: المستوى اللغوي الظاهر فالمجازي. ومستوى إجماع الأمة أو جمهور الفقهاء. ومستوى التعقُّل الفردي للمصالح. أمّا المستوى الأول فالمحاسبيُّ يبدأُ بالنص في تعقُّل لُغَويٍ بحتٍ باعتباره خاماً أو طازجاً ما صرَّح عن مكنوناته بعد. وهو يتوسع في المستويين الآخرين؛ مع اعتبار المستوى الثالث عملية تفكرٍ ومُوازنةٍ وتعقُّل للنص وتجربة الجماعة معه، معاً. وبذلك يبقى تجريبياً بالفعل، قبل ظهور التدقيقات القياسية في تحقيق المناط وتنقيحه، ذلك أنه يعتبر النصَّ الإلهيَّ القرآنيَّ والنبويَّ واحداً. ويمضي منه مباشرةً إلى الجماعة التي تتلقّى النصَّ. ثم يؤول الأمر بالفقيه إلى تأمُّل النصّ وعمله في الجماعة في ما يسمّيه عملية العقل عن الله.

لماذا ذهب المحاسبي إلى هذا المعنى للتأويل؟ المؤكَّد أنه عرف أعمالَ أبي عُبيد، وربما عرف رسالةَ الشافعي. لكن يبدو أنه ما اقتنع بها أو أنّ أُطروحةَ الشافعيّ ما كانت قد سطعت تأثيراتُها. وعلى كل حال، فإنّ الخلافَ لا يتناولُ العلاقةَ بين التأويل والتنزيل بالمعنيين وحسب؛ بل يتناول أيضاً مفهوم التأويل، وهو عند الفقهاء عمليةٌ لغويةٌ وأُسلوبيةٌ بحتة.

أين يقعُ عملُ المحاسبي المنهجي هذا من أعمال الأُصوليين والفقهاء في ما بعد في شتّى المذاهب؟ ظلَّ الأصوليون يكررون في كتبهم رأْيَ المحاسبي في مفهوم العقل أو تعريفه. بيد أنّ أحداً منهم ما تابعهُ في رأيه أو منهجه الشامل باعتباره أنّ «العقلَ عن الله» إنما يعني اعتماد التأويل في شتّى العلوم الإسلامية، للخروج من التأصيل، ومن المنهج الاتّباعي بتنزيل النصوص على الوقائع أو تزمينها بهذه الطريقة.

هذه المادة: محاضرة أُلقيت في أغادير - المغرب في 30/ 3/2020 خلال مؤتمر رابطة علماء المغرب عن «العلوم الإسلامية - أزمة منهج أم أزمة تنزيل».

المصدر ( http://www.almultaka.net/ShowMaqal.php?module=3c058ed609acdbe2bd4c56610aa9a 1f5&cat=3&id=749&m=c9bcfb258f116f259d090276f7ed48b4)

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير