والله لقد أضحكتني كثيراً من اسلوبك الرائع في الرد. وقبل ذلك ولأني أحبك في الله تكلمت معك باسلوب الناصح الامين لك. ولكن لم تقل لي. من هو النورسي أحب أن أعرف عنه لأني على ثقة أنك لا تتعرف الا على ما يبحث على شاكلته النحل.
أستاذي العزيز:
أشكرك كثيراً على حسن ظنك .. و أقول: إن صدق المحبة في الله يقتضي صدق النصيحة .. فبارك الله فيكم .. و لا تقصّر فيّ من ذلك http://www.tafsir.net/vb/images/icons/icon7.gif فإن التسويق للأستاذ النورسي قد يستجلب لي الكثير! (قال الراوي الكثير هنا مبهمة لا يعرف بها قصد المؤلف أهي للقدح أم للمدح؟) لأن هذا الرجل باختصار هو: أعجوبة العصر!
والآن لنجد منشأ كلٍ من تلكما السلسلتين وأساسهما:
فإن سلسلة الفلسفة التي عصت الدين، اتخذت صورة شجرة زقوم خبيثة تنشر ظلمات الشرك وتنثر الضلالة حولها. حتى إنها
سلّمت الى يد عقول البشر، في غصن القوة العقلية، ثمرات الدهريين والماديين والطبيعيين ..
وألقت على رأس البشرية، في غصن القوة الغضبية، ثمرات النماريد والفراعنة والشدادين (1) ..
وربّت، في غصن القوة الشهوية البهيمية، ثمرات الآلهة والأصنام ومدّعي الالوهية.
وبجانب هذه الشجرة الخبيثة، شجرة زقوم، نشأت شجرةُ طوبى العبودية لله، تلك هي سلسلة النبوة، فأثمرت ثمرات يانعة طيبة في بستان الكرة الأرضية، ومدّتها إلى البشرية،
فتدلّت قطوفاً دانية من غصن القوة العقلية: أنبياءٌ ومرسلون وصديقون وأولياء صالحون ..
كما أثمرت في غصن القوة الدافعة: حكاماً عادلين وملوكاً طاهرين طهر الملائكة ..
وأثمرت في غصن القوة الجاذبة: كرماء وأسخياء ذوي مروءة وشهامة في حسن سيرة وجمال صورة ذات عفة وبراءة .. حتى اظهرت تلك الشجرة المباركة:
ان الانسان هو حقاً اكرم ثمرة لشجرة الكون.
وهكذا فمنشأ هذه الشجرة المباركة، ومنشأ تلك الشجرة الخبيثة، هما جهتا (أنا) ووجهاه، أي أن (أنا) الذي أصبح بذرة أصلية لتلكما الشجرتين، صار وجهاه منشأ كلٍ منهما.
وسنبين ذلك بالآتي:
إن النبوة تمضي آخذة وجهاً لـ (أنا).
والفلسفة تُقبل آخذةً الوجه الآخر لـ (أنا) ..
فالوجه الأول الذي يتطلع الى حقائق النبوة:
هذا الوجه منشأ العبودية الخالصة لله .. أي أن (أنا):
يعرف أنه عبدٌ لله، ومطيع لمعبوده ..
ويفهم أن ماهيته حرفية، أي دال على معنىً في غيره ..
ويعتقد أن وجوده تَبَعيّ، أي قائم بوجود غيره وبإيجاده ..
ويعلم أن مالكيته للأشياء وهمية، أي: أن له مالكية مؤقتة ظاهرية بإذن مالكه الحقيقي ..
وحقيقته ظلية ـ ليست أصيلة ـ أي أنه ممكنٌ مخلوق هزيل، وظلٌ ضعيف يعكس تجلياً لحقيقة واجبة حقة ..
أما وظيفته فهي القيام بطاعة مولاه، طاعة ً شعوريةً كاملة، لكونه ميزاناً لمعرفة صفات خالقه، ومقياساً للتعرف على شؤونه سبحانه.
هكذا نظر الأنبياء والمرسلون عليهم السلام، ومَن تبعهم من الأصفياء والأولياء، إلى (أنا) بهذا الوجه ..
وشاهدوه على حقيقته هكذا. فأدركوا الحقيقة الصائبة، وفوّضوا المُلك كله الى مالك الملك ذي الجلال، وأقرّوا جميعاًً أن ذلك المالك جلّ وعلا لا شريك له ولا نظير، لا في ملكه ولا في ربوبيته ولافي ألوهيته، وهو المتعال الذي لايحتاج إلى شئ، فلا معين له ولا وزير، بيده مقاليد كل شئ وهو على كل شئ قدير. وما (الأسباب) إلاّ أستار وحُجب ظاهرية تدل على قدرته وعظمته .. وما (الطبيعة) إلاّ شريعته الفطرية، ومجموعة قوانينه الجارية في الكون، اظهاراً لقدرته وعظمته جل جلاله.
فهذا الوجه الوضئ المنور الجميل، قد أخذ حكم بذرة حية ذات مغزىً وحكمة. خلق الله جل وعلا منها
شجرة طوبى العبودية،
امتدت أغصانُها المباركة إلى أنحاء عالم البشرية كافة وزيّنته بثمراتٍ طيبةٍ ساطعة، بدّدت ظلمات الماضي كلها، وأثبتت بحق أن ذلك الزمن الغابر المديد ليس كما تراه الفلسفة مقبرةً شاسعة موحشة، وميدان إعدامات مخيفة، بل هو روضة من رياض النور، للأرواح التي ألقت عبئها الثقيل لتغادر الدنيا طليقة، وهو مدار أنوار ومعراج منّور متفاوتة الدرجات لتلك الأرواح الآفلة لتتنقل الى الآخرة وإلى المستقبل الزاهر والسعادة الابدية.
أما الوجه الثاني: فقد اتخذته الفلسفة، وقد نظرت إلى (أنا) بالمعنى الاسمي ..
أي تقول: إن (أنا) يدل على نفسه بنفسه ..
وتقضي أن معناه في ذاته، ويعمل لأجل نفسه ..
¥