تم الاندماج مع الموقع الرسمي لمشروع المكتبة الشاملة وقد يتم الاستغناء عن هذا النطاق قريبا

فصول الكتاب

<<  <   >  >>

فتذكير الله تعالى إيانا بهذا الشأن من شئون الإنسان، وهذه السنة القلبية من سنن الله تعالى في الإرادات والأعمال، وأمره إيانا بأن نعلمها علم إيقان وإذعان، يفيدنا فائدتين لا يكمل بدونهما الإيمان، وهما ألا يأمن الطائع المشمر من مكر الله فيغتر بطاعته ويعجب بنفسه، وألا ييأس العاصي والمقصر في الطاعة من روح الله، فيسترسل في اتباع هواه، حتى تحيط به خطاياه. ومن لم يأمن عقاب الله، ولم ييأس من رحمة الله، يكون جديرا بأن يراقب قلبه، ويحاسب نفسه على خواطره، ويعاقب نفسه على هفواته ; لتظل على صراط العدل المستقيم، متجنبة الإفراط والتفريط، ويتحرى أن يكون دائما بين خوف يحجزه عن المعاصي، ورجاء يحمله على الطاعات، ويساعدنا على ذلك (الأمر الثاني) وهو أن نذكر حشرنا إليه عز وجل ومحاسبته إيانا على أعمالنا القلبية والبدنية، ومجازاته إيانا عليها إما بالعذاب الأليم، وإما بالنعيم المقيم، وهذا منه مقتضى الفضل، وذلك أثر العدل.

ومما يؤيد ما فهمناه في هذا المقام، مقام حرمان الراسخين في الكفر من سماع الفقه والهدى، والحيلولة بين المرء وقلبه أن يعصي الهوى أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون ( http://www.tafsir.net/vb/#docu)( 45 : 23 ) فهي صريحة في أن من هذا حاله ليس مجبورا عليه، وأن الله لم يحرمه الهدى بإعجازه عنه، وهو يؤثره ويفضله، أو بإكراهه على اتباع الهوى، وهو كاره له، فإنه أسند إليه اتخاذه هواه إلهه، وقد قال تعالى لنبيه داود عليه السلام: ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله ( http://www.tafsir.net/vb/#docu)( 38 : 26 ) الآية.

فهذا نص في أن اتباع الهوى سبب للضلال عن سبيل الله، فقوله في آية الجاثية وأضله الله على علم ( http://www.tafsir.net/vb/#docu) ليس معناه أنه تعالى خلق فيه الضلال استقلالا - كما يدعي بعض المتكلمين - بل هو داخل في سنته تعالى في الأسباب والمسببات ويؤيده إثبات كون ضلاله على علم، وهو أنه متعمد لاتباع الهوى، مؤثر له على الهدى، والله تعالى يسند الأمور إلى أسبابها تارة، وإليه تعالى تارة، من حيث إنه خالق كل شيء، وواضع سنن الأسباب والمسببات. ومن الأسباب ما جعله من أفعال المخلوقات الاختيارية على علم، وما جعله بأسباب لا يعلم للخلق اختيار فيها ولا علم، وكل من القسمين يسند إلى سببه تارة، وإلى رب الأسباب تارة، والجهة مختلفة معروفة، ويختار هذا أو ذاك في البيان بحسب سياق الكلام، كقوله تعالى في الحرث: أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون ( http://www.tafsir.net/vb/#docu)( 56 : 63 ، 64 ) فهل يقول عاقل: إن الفلاح لا فعل له، ولا اختيار في زرعه، وأن الله يخلقه له بدون إرادته ولا فعله، أو أن فعله وتركه في أرضه سواء، وتلقيحه لنخله وعدمه سيان؟!.

وجملة القول: أن من سننه تعالى في البشر أن من يتبع هواه في أعماله، ويستمر على ذلك ويدمنه الزمن الطويل، تضعف إرادته في هواه حتى تذوب وتفنى فيه، فلا تعود تؤثر فيه المواعظ القولية، ولا العبر المبصرة ولا المعقولة، وهذه الحالة يعبر عنها بالختم والرين والطبع على القلب، والصمم والعمى والبكم كما تقدم آنفا، وسبق مثله في تفسير سورة البقرة وغيرها.

وأمثال هذه الأمثال المضروبة لهذه الحالة قد ضل بها الجبرية غافلين عن كونها عاقبة طبيعية لإدمان تلك الأعمال الاختيارية، كالخمار الذي يعتري مدمن الخمر، فيشعر بفتور وألم عصبي لا يسكن إلا بالعودة إلى الشرب، على أن هذه الآية علمتنا عدم اليأس.

ومن تفسير القرآن بالقرآن في تقليب القلوب، والحيلولة بينها وبين إرادة الإنسان المتصرفة في قدرته ومشاعره قوله تعالى من سورة الأنعام: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون ( http://www.tafsir.net/vb/#docu)( 6 : 110 ) فيراجع معناها في آخر تفسير الجزء السابع، وقال الراغب: تقليب الله القلوب صرفها من رأي إلى رأي. وذكر آية الأنعام هذه.

¥

<<  <   >  >>
تعرف على الموسوعة الشاملة للتفسير