استعرض الباحث سعيد الحسن في بداية مداخلته واقع هذه المراكز البحثية، مشيرا إلى بداية ظهور أهم هذه المراكز وظروف اشتغالها، وتناول تقييما لمسار تجاربها، واستنتج أن مراكز الأبحاث -بشكل عام- تحتاج إلى تمويل، إلا أنه في الوطن العربي المؤسسات التي عندها قدرة على الاستمرارية هي الأقل تقييدا وارتباطا بالتمويل المالي، واستشهد في ذلك بنماذج من مراكز الأبحاث في العالم العربي.
وخلص إلى أن الاستقلالية وتقاليد العمل المرن مسألة مهمة فيما يخص العملية البحثية، التي تمثل نوعا من الضمان لتقديم وتكريس مرجعية فكرية وتحليلية؛ لأن عملية رصد المعلومات ليست هي الأساس في مهمة ووظيفة المراكز البحثية؛ فمراكز الأبحاث الكبرى مثل بروكنز وراند ... إلخ، تعتبر الآن أن القضية الأساسية ومهامها الرئيسية هي تقييم الأفكار المطروحة ووضعها موضع التطبيق أكثر من تصنيعها، ومثال ذلك: كيسنجر وبريجنسكي، وأمثال المحافظين الجدد الذين كانوا في مواقع فكرية وانتدبوا لمسئوليات عامة، وكان هذا بمثابة تطبيق للأفكار التي يؤمنون بها.
يرى الحسن أن طابع المؤسسة البحثية واستمراريتها ليس مسألة هيكلية إدارية، بقدر ما هي استمرارية على مستوى القيم وعلى مستوى المنهجية؛ فالاستمرار على صعيد العمل البحثي أساسا هو استمرارية قيم واستمرارية منطلقات فكرية، ولذلك إذا كانت عملية التفعيل أساسية وجوهرية -وهي المقصود في النهاية- فإنها ليست في جوهرها عملية الاهتمام وعملية البناء في العمل البحثي؛ فالعالم مثلا يعتبر مؤسسة علمية عندما يكون مرجعية، وهذا معناه أننا أمام عمل بحثي يستحق الاهتمام، مع العلم أن هناك كثيرا من المدارس وجدت طريقها للتأثير بالفعل من هذه الطريقة.
الإشكالية التي تواجهها مراكز الأبحاث حاليا في أمريكا هي تحولها إلى مراكز مقاولات حكومية، بمعنى انتهت المرحلة ما قبل الحرب العالمية الثانية التي كان أساس العمل البحثي فيها هو القيادية، وتم الآن -بعد موجة مراكز الأبحاث التي كأنها مكاتب مقاولات، والفكر أصبح صناعة بالمعنى الاحترافي- الدخول لمرحلة جديدة من مظاهرها "المحافظون الجدد"؛ حيث أصبحت مراكز الأبحاث نوعا من الجهد سمته الأساسية مجموعة من "المتسايسين" و"المتناصبين" الذين يتخذون العملية البحثية كمدخل للعمل السياسي أو المنصب السياسي، وهذه مشكلة يواجهها العمل البحثي في الغرب، وفي أمريكا على وجه التحديد وأيضا عند "الإسرائيليين"؛ حيث يتم أدلجة مراكز الأبحاث -بمعنى توظيف هذه المراكز- في خدمة سياسة معينة، نفس المشكلة الآن يستغيث منها الكثير من رجال صنع القرار ورجال الإعلام والفكر في الكيان الصهيوني؛ أي سيطرة عملية الأدلجة على العمل البحثي.
أما على مستوى العالم العربي فيرى الباحث سعيد خالد الحسن أن عملية البحث غير مرتبطة بصانع القرار، ولا باحتياجات المجتمع، ولا بإرادتنا الذاتية، والسبب الأساسي وراء ذلك أننا ما زلنا نعيش في مرحلة التحرر ولم نرق بعد إلى مرحلة التطور، ويعني بذلك أن العالم العربي ما زال يعيش حالة من التبعية على كافة الأصعدة والمستويات، هذه التبعية كانت موجودة وكامنة إلا أنها اليوم أصبحت أكثر وضوحا، وهذه الوضعية تستوجب أن نعتبر المشكل الأساسي الذي نعيشه هو مشكل التبعية، وبالتالي فالمهمة الأساسية المنوطة بنا هي المهمة التحررية.
وضمن هذا الإطار يتساءل الباحث حول الإشكال في مراكز الأبحاث؛ ليبين أن هذه المراكز أصبحت خاضعة لمنطق المقاولات، وتكاد تكون ستارا للاسترزاق. وفي ظل هذه الظروف تغيب المصداقية البحثية، ولذلك فالعملية البحثية يجب ألا تُقَول (بضم الواو)؛ أي ألا تصبح مقاولة، وألا تقول ما يراد لها أن تقوله، وما يؤمل منها أن تصل إليه علميا وبحثيا، وهذا الموضوع يتطلب ألا تكون العملية البحثية عملية احترافية، بمعنى يجب ألا تصبح الفكرة عملية مصنوعة، بل يجب أن تكون العملية الفكرية عملية مثالية. وحتى يحدث هذا -برأي الباحث- لا بد من إعطاء العمل البحثي استقلاليته، وهذه الأخيرة لا يتم إدراكها بدورها، إلا إذا احتضنها المجتمع الأهلي؛ لكي تصبح العملية البحثية عبارة عن موقع يحتضنه المجتمع وتحتضنه الجماعة للتعبير عن الفكرة بحرية، خاصة في هذه المرحلة، وبالتالي يجب تكريس الحرية وتحقيق التحرر باعتبارهما شرطا لممارسة الحرية، ومن ثم تصبح هذه القيمة هي القيمة الحاكمة للعملية البحثية في هذه الحقبة التي يقدرها الباحث بأكثر من 10 أو 20 سنة في المرحلة القادمة.
ـ[محمد بن جماعة]ــــــــ[02 Aug 2010, 04:32 م]ـ
تعليق: نشرت هذا المقال للفت النظر إلى أمرين:
1 - الأول: حالة الركود البحثي التي لاحظتها على أعضاء الملتقى من أساتذة جامعيين وطلبة ماجستير ودكتوراه .. وأنا أدرك أن غياب البحوث العلمية عن الموقع قد لا يعني بالضرورة عدم وجود بحوث علمية منجزة .. غير أنني أتساءل: إن كان الأمر كذلك، أفلا يوفر الملتقى فرصة جيدة للنشر والحوار حول ما يكتبه هؤلاء الباحثون؟ إن كان هناك إنتاج علمي، فالأحرى أن يبادر الباحثون لنشره هنا حتى يستفيدوا من القرّاء.
2 - الثاني: هو خيبة الأمل التي أشعر بها منذ سنوات، نتيجة غياب العمل الجماعي المؤسسي (في شكل مراكز بحثية "جادّة") في علوم الدين عموما، وفي تخصص الدراسات القرآنية على وجه التحديد. وحتى في حالة وجود بعض هذه المؤسسات، فهي تعاني من غياب الرؤية والعجز عن التخطيط الجاد ..
ألا بلغت؟ ... اللهم فاشهد.